التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوۤاْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
٢٧
وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
٢٨
يِٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ
٢٩
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ
٣٠
-الأنفال

بحر العلوم

{ يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ } روى أسباط عن السدي قال: كانوا يسمعون من النبي عليه السلام الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين فنهاهم الله تعالى عن ذلك فقال { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ }، ويقال كل رجل مؤتمن على ما فرض الله عليه إن شاء أداها وإن شاء خانها. وقال القتبي: الخيانة أن يؤتمن على شيء فلا يؤدي إليه. ثم سمى العاصي من المسلمين خائناً لأنه قد ائتمن على دينه فخان. كما قال في آية أخرى { { عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ } [البقرة: 187] ويقال نزلت الآية في أَبي لبابة بن عبد المنذر حين أشار إلى بني قريظة أن لا ينزلوا على حكم سعد وأشار إلى حلقه إنه الذبح. "وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصر بني قريظة من بعد انصرافهم من الخندق ووقف بباب الحصن وفيه ستمائة رجل من اليهود وقد كانوا ظاهروا قريشاً على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداهم: يا إخوة القردة والخنازير انزلوا على حكم الله ورسوله" . فقالت اليهود: يا محمد ما كنت فحاشاً قبل هذا، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة بن عبد المنذر فدخل على اليهود فركنوا إليه وقالوا: يا أبا لبابة أتأمرنا بالنزول إلى محمد صلى الله عليه وسلم فأشار بيده إلى حلقه يعني: إنه الذبح إن نزلتم إليه. فقال أبو لبابة: والذي نفسي بيده ما زالت قدماي من مكاني حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله، وأوثق نفسه إلى سارية المسجد حتى أنزل الله تعالى توبته ونزل { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ } { وَتَخُونُواْ أَمَـٰنَـٰتِكُمْ } يعني لا تخونوا أماناتكم { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنها خيانة. قال محمد بن إسحاق لا تخونوا الله والرسول يعني لا تظهروا له من الحق ما يرضى عنكم ثم تخالفوه في السر. قال فإن ذلك هلاكاً لأنفسكم وخيانة لأماناتكم. ثم قال عز وجل: { وَٱعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوٰلُكُمْ وَأَوْلَـٰدُكُمْ فِتْنَةٌ } يعني بلاء عليكم، لأن أبا لبابة إنما ناصحهم من أجل ماله وولده الذي كان عند بني قريظة { وَأَنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } يعني الجنة لمن صبر ولم يخن. قوله تعالى { يِـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ } يعني إن تطيعوا الله ولا تعصوه { يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } يعني يجعل لكم مخرجاً في الدنيا ونجاة ونصراً في الدين، ويقال: المخرج من الشبهات.

وقال مجاهد: مخرجاً في الدنيا والآخرة. { وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ } يقول يمحو عنكم ذنوبكم { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } يعني يستر ذنوبكم وعيوبكم { وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } يعني ذو الكرم والتجاوز عن عباده. قوله تعالى { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } وذلك أن نفراً من قريش اجتمعوا في دار الندوة، وكانت قريش إذا اجتمعوا للمشورة والتدبير كانوا يجتمعون في تلك الدار، فاجتمعوا فيها وأغلقوا الباب لكيلا يدخل رجل من بني هاشم، ليمكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ويحتالوا في أمره، فدخل إبليس في صورة شيخ وعليه ثياب أطمار وجلس معهم فقالوا: من أدخلك أيها الشيخ في خلوتنا بغير إذننا؟ فقال: أنا رجل من أهل نجد، ورأيت حسن وجوهكم وطيب ريحكم فأردت أن أسمع حديثكم وأقتبس منكم خيراً وقد عرفت مرادكم فإن كرهتم مجلسي خرجت عنكم. فقالوا هذا رجل من أهل نجد وليس من أرض تهامة لا بأس عليكم منه، فتكلموا فيما بينهم.

فقال عمرو بن هشام: أرى أن تأخذوه وتجعلوه في بيت وتسدوا بابه وتجعلوا له كوة لطعامة وشرابه حتى يموت. فقال إبليس بئس الرأي "الذي" رأيت تعمدون إلى رجل له فيكم أهل بيت وقد سمع به من حولكم فتحبسونه وتطعمونه، يوشك أهل بيته الذين فيكم أن يقاتلوكم أو يفسدوا جماعتكم. فقالوا صدق والله الشيخ. ثم تكلم أبو البحتري بن هشام. قال: أرى أن تحملوه على بعير ثم تخرجوه من أرضكم حتى يموت أو يذهب به حيث شاء. فقال إبليس عدو الله بئس الرأي الذي رأيت. تعمدون إلى رجل أفسد جماعتكم ومعه منكم طائفة فتخرجوه إلى غيركم فيأتيهم سوء فيفسد منهم أيضاً جماعة ويقبل إليكم ويكون فيه هلاككم. فقالوا صدق والله الشيخ. فقال أبو جهل: أرى أن يجتمع من كل بطن منكم رجل، ثم تعطونهم السيوف فيضربونه جميعاً. فلا يدري قومه من يأخذون وتؤدي قريش ديته. فقال إبليس. صدق والله هذا الشاب. فتفرقوا على ذلك. فأمر الله تعالى بالهجرة وأخبره بمكر المشركين. فنزلت هذه الآية { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } { لِيُثْبِتُوكَ } يعني ليحبسوك في البيت أوْ يقتلوك بالبيت { أَوْ يُخْرِجُوكَ } من مكة،فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً بن أبي طالب بأن يبيت في مكانه، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر رضي الله عنه، ونام عليّ مكانه وأهل مكة يحرسونه ويظنون أنه في البيت. ثم دخلوا البيت فإذا هو عليّ رضي الله عنه فقالوا: يا عليّ: أين محمد؟ فقال: لا أدري فطلبوه فلم يجدوه { وَيَمْكُرُونَ } يعني ويمكرون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويريدون به الشر { وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ } يعني يريد بهم الهلاك حين أخرجهم إلى بدر فقتلوا { وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَـٰكِرِينَ } يعني أصدق الماكرين فعلاً وأفضل الصانعين صنعاً وأعدل العادلين عدلاً. قوله تعالى:{ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ... }