التفاسير

< >
عرض

تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ
١
مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ
٢
سَيَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ
٣
وَٱمْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ ٱلْحَطَبِ
٤
فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ
٥
-المسد

النكت والعيون

قوله تعالى: { تبّتْ يدا أبي لهب } اختلف في سبب نزولها في أبي لهب على ثلاثة أقاويل:
أحدها: ما حكاه عبد الرحمن بن زيد أن أبا لهب أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا أُعطَى إن آمنتُ بك يا محمد؟ قال: ما يعطَى المسلمون، قال: ما عليهم فضل؟ قال: وأي شيء تبتغي؟ قال: تبَّا لهذا من دين أن أكون أنا وهؤلاء سواء، فأنزل الله فيه: { تبت يدا أبي لهب }.
الثاني: ما رواه ابن عباس أنه لما نزل { وأنذر عشيرتك الأقربين } أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليها، ثم نادى يا صباحاه! فاجتمع الناس إليه، فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم، صدقتموني؟ قالوا: نعم، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبّا لك سائر اليوم أما دعوتنا إلا لهذا؟! فأنزل الله تعالى هذه السورة.
الثالث: ما حكاه عبد الرحمن بن كيسان أنه كان إذا وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وفْدٌ انطلق إليهم أبو لهب، فيسألونه عن رسول الله ويقولون: أنت أعلم به، فيقول لهم أبو لهب: إنه كذاب ساحر، فيرجعون عنه ولا يلقونه، فأتاه وفد، ففعل معهم مثل ذلك، فقالوا: لا ننصرف حتى نراه ونسمع كلامه، فقال لهم أبو لهب: إنا لم نزل نعالجه من الجنون فتبّاً له وتعساً، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فاكتأب له، فأنزل الله تعالى " تَبّتْ" السورة، وفي " تبّتْ " خمسة أوجه:
أحدها: خابت، قاله ابن عباس.
الثاني: ضلّت، وهو قول عطاء.
الثالث: هلكت، قاله ابن جبير.
الرابع: صفِرت من كل خير، قاله يمان بن رئاب.
حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه لما قتل عثمان بن عفان سمع الناس هاتفاً يقول:

لقد خلّوْك وانصدعوا فما آبوا ولا رجعوا
ولم يوفوا بنذرِهمُ فيا تبَّا لما صَعنوا

والخامس: خسرت، قاله قتادة، ومنه قول الشاعر:

تواعَدَني قوْمي ليَسْعوْا بمهجتي بجارية لهم تَبّا لهم تبّاً

وفي قوله { يَدَا أَبِي لَهَبٍ } وجهان:
أحدهما: يعني نفس أبي لهب، وقد يعبر عن النفس باليد كما قال تعالى { ذلك بما قدمت يداك } أي نفسك.
الثاني: أي عمل أبي لهب، وإنما نسب العمل إلى اليد لأنه في الأكثر يكون بها.
وقيل إنه كني أبا لهب لحُسنه وتلهّب وجنته، وفي ذكر الله له بكنيته دون اسمه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه كان بكنيته أشهر منه باسمه.
الثاني: لأنه كان مسمى بعبد هشم، وقيل إنه عبد العزى فلذلك عدل عنه.
الثالث: لأن الاسم أشرف من الكنية، لأن الكنية إشارة إليه باسم غيره، ولذلك دعا الله أنبياءه بأسمائهم.
وفي قوله { وتَبَّ } أربعة أوجه:
أحدها: أنه تأكيد للأول من قوله { تبت يدا أبي لهب } فقال بعده " وتب" تأكيداً. الثاني: يعني تبت يدا أبي لهب بما منعه الله تعالى من أذى لرسوله، وتب بما له عند الله من أليم عقابه.
الثالث: يعني قد تبّ، قاله ابن عباس.
الرابع: يعني وتبّ ولد أبي لهب، قاله مجاهد.
وفي قراءة ابن مسعود: تبت يدا أبي لهبٍ وقد تب، جعله خبراً، وهي على قراءة غيره تكون دعاء كالأول.
وفيما تبت عنه يدا أبي لهب وجهان:
أحدهما: عن التوحيد، قاله ابن عباس.
الثاني: عن الخيرات، قاله مجاهد.
{ ما أَغْنَى عَنْه مالُه وما كَسَب } في قوله " ما أغنى عنه" وجهان:
أحدهما: ما دفع عنه.
الثاني: ما نفعه، قاله الضحاك.
وفي { مالُه } وجهان:
أحدهما: أنه أراد أغنامه، لأنه كان صاحب سائمة، قاله أبو العالية.
الثاني: أنه أراد تليده وطارفه، والتليد: الموروث، والطارف: المكتسب.
وفي قوله { وما كَسَبَ } وجهان:
أحدهما: عمله الخبيث، قاله الضحاك.
الثاني: ولده، قاله ابن عباس.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" أولادكم من كسبكم"
وكان ولده عتبة بن أبي لهب مبالغاً في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم كأبيه، فقال حين نزلت{ والنجم إذا هوى } كفرت بالنجم إذا هوى، وبالذي دنا فتدلى، وتفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم سلط عليه كلباً من كلابك" فأكله الأسد.
وفيما لم يغن عنه ماله وما كسب وجهان:
أحدهما: في عداوته النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: في دفع النار عنه يوم القيامة.
{ سَيَصْلَى ناراً ذاتَ لَهَبٍ } في سين سيصلى وجهان:
أحدهما: أنه سين سوف.
الثاني: سين الوعيد، كقوله تعالى { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ } و { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا } وفي { يَصْلًى } وجهان:
أحدهما: صلي النار، أي حطباً ووقوداً، قاله ابن كيسان.
الثاني: يعني تُصليه النار، أي تنضجه، وهو معنى قول ابن عباس، فيكون على الوجه الأول صفة له في النار، وعلى الوجه الثاني صفة للنار.
وفي { ناراً ذاتَ لَهَبٍ } وجهان:
أحدهما: ذات ارتفاع وقوة واشتعال، فوصف ناره ذات اللهب بقوتها، لأن قوة النار تكون مع بقاء لهبها.
الثاني: ما في هذه الصفة من مضارعة كنيته التي كانت من نذره ووعيده.
وهذه الآية تشتمل على امرين:
أحدهما: وعيد من الله حق عليه بكفره.
الثاني: إخبار منه تعالى بأنه سيموت على كفره، وكان خبره صدقاً، ووعيده حقاً.
{ وامرأتُهُ حَمّالَةَ الحَطَبِ } وهي أم جميل بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان.
وفي { حمالة الحطب } أربعة أوجه: أحدها: أنها كانت تحتطب الشوك فتلقيه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً، قاله ابن عباس.
الثاني: أنها كانت تعيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر، فكان يحتطب فعيرت بأنها كانت تحتطب، قاله قتادة.
الثالث: أنها كانت تحتطب الكلام وتمشي بالنميمة، قاله الحسن والسدي فسمي الماشي بالنميمة حمال الحطب لأنه يشعل العداوة كما تشعل النار الحطب، قال الشاعر:

إنّ بني الأَدْرَمِ حَمّالو الحَطَبْ هم الوُشاةُ في الرِّضا وفي الغَضَبْ.
عليهمُ اللعْنةُ تَتْرى والحرَبْ.

وقال آخر:

مِنَ البِيضِ لم تُصْطَدْ على ظهر لأمةٍ ولم تمشِ بَيْن الحيّ بالحَطَب والرطْبِ.

الرابع: أنه أراد ما حملته من الآثام في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كالحطب في مصيره إلى النار.
{ في جِيدِها حَبْل مِنْ مَسَدِ } جيدها: عنقها.
وفي { حبل من مسد } سبعة أقاويل:
أحدها: أنه سلسلة من حديد، قاله عروة بن الزبير، وهي التي قال الله تعالى فيها: { ذرعها سبعون ذراعاً } قال الحسن: سميت السلسلة مسداً لأنها ممسودة، أي مفتولة.
الثاني: أنه حبل من ليف النخل، قاله الشعبي، ومن قول الشاعر:

أعوذ بالله مِن لَيْل يُقرّبني إلى مُضاجعةٍ كالدَّلْكِ بالمسَدِ.

الثالث: أنها قلادة من ودع، على وجه التعيير لها، قاله قتادة.
الرابع: أنه حبل ذو ألوان من أحمر وأصفر تتزين به في جيدها، قاله الحسن، ذكرت به على وجه التعيير أيضاً.
الخامس: أنها قلادة من جوهر فاخر، قالت لأنفقنها في عداوة محمد، ويكون ذلك عذاباً في جيدها يوم القيامة.
السادس: أنه إشارة إلى الخذلان، يعني أنها مربوطة عن الإيمان بما سبق لها من الشقاء كالمربوطة في جيدها بحبل من مسد.
السابع: أنه لما حملت أوزار كفرها صارت كالحاملة لحطب نارها التي تصلى بها.
روى الوليد بن كثير عن ابن تدرس عن أسماء بنت أبي بكر أنه لما نزلت " تبت يدا" في أبي لهب وامرأته أم جميل أقبلت ولها ولولة وفي يدها قهر وهي تقول:

مُذَمَّماً عَصَيْنَا وأَمْرَهُ أَبَيْنا
ودِينَه قَلَيْنا.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله قد أقبلت وإني أخاف أن تراك، فقال: إنها لن تراني، وقرأ قرآناً اعتصم به، كما قال تعالى: { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً } فأقبلت على أبي بكر، ولم تر رسول الله، فقالت: يا أبا بكر إني أخبرت أن صاحبك هجاني، فقال: لا ورب هذا البيت، ما هجاك، فولت فعثرت في مرطها، فقالت: تعس مذمم، وانصرفت.