التفاسير

< >
عرض

وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُاْ ٱلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ
٢١
إِذْ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَٱحْكُمْ بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَٱهْدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَاطِ
٢٢
إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي ٱلْخِطَابِ
٢٣
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِيۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ
٢٤
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَـآبٍ
٢٥

النكت والعيون

قوله عز وجل: { وهل أتاك نبأ الخَصْم } والخصم يقع على الواحد والاثنين والجماعة لأن أصله المصدر.
{ إذ تسوروا المحراب } ومعنى تسوروا أنهم أتوه من أعلى سورة وفي المحراب أربعة أقاويل:
أحدها: أنه صدر المجلس، ومنه محراب المسجد، قاله أبو عبيدة.
الثاني: مجلس الأشراف الذي يتحارب عليه لشرف صاحبه، حكاه ابن عيسى.
الثالث: أنه المسجد، قاله يحيى بن سلام.
الرابع: أنه الغرفة لأنهم تسوروا عليه فيها.
{ إذ دخلوا على داود ففزع منهم } وسبب ذلك ما حكاه ابن عيسى: إن داود حدث نفسه إن ابتلي أن يعتصم، فقيل له إنك ستبتلى وتعلم اليوم الذي تبتلى فيه فخذ حذرك، فأخذ الزبور ودخل المحراب ومنع من الدخول عليه، فبينما هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر كأحسن ما يكون من الطير فجعل يدرج بين يديه، فهمّ أن يستدرجه بيده فاستدرج حتى وقع في كوة المحراب فدنا منه ليأخذه فانتفض فاطلع لينظره فأشرف على امرأة تغتسل فلما رأته غطت جسدها بشعرها، قال السدي فوقعت في قلبه، قال ابن عباس وكان زوجها غازياً في سبيل الله، قال مقاتل وهو أوريا بن حنان، فكتب داود إلى أمير الغزاة أن يجعل زوجها في حملة التابوت، وكان حملة التابوت إما أن يفتح الله عليهم أو يقتلوا، فقدمه فيهم فقتل، فلما انقضت عدتها خطبها داود فاشترطت عليه إن ولدت غلاماً أن يكون الخليفة بعده، وكتبت عليه بذلك كتاباً وأشهدت عليه خمسين رجلاً من بني إسرائيل فلم يشعر بفتنتها حتى ولدت سليمان وشب وتسور عليه الملكان وكان من شأنهما ما قَصَّه الله في كتابه.
وفي فزعه منهما قولان:
أحدهما: لأنهم تسوروا عليه من غير باب.
الثاني: لأنهم أتوه في غير وقت جلوسه للنظر.
{ قالوا لا تخف خصمان بَغَى بعضنا على بعض } وكانا ملكين ولم يكونا خصمين ولا باغيين، ولا يأتي منهما كذب، وتقدير كلامها: ما تقول إن أتاك خصمان وقالا بغى بعضنا على بعض.
وثنى بعضهم هنا وجمعه في الأول حيث قال: { وهل أتاك نبأ الخصم } لأن جملتهم جمعت، وهم فريقان كل واحد منهما خصم.
{ فاحكم بيننا بالحق } أي بالعدل.
{ ولا تشطط } فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: لا تملْ، قاله قتادة.
الثاني: لا تَجُر، قاله السدي.
الثالث: لا تسرف، قاله الأخفش.
وفي أصل الشطط قولان:
أحدهما: أن أصله البعد من قولهم شطط الدار إذا بعدت، قال الشاعر:

تشطط غداً دار جيراننا والدار بعد غد أبعد

الثاني: الإفراط. قال الشاعر:

ألا يالقومي قد اشطّت عواذلي وزعمن أن أودى بحقّي باطلي

{ واهدِنا إلى سواءِ الصراط } فيه وجهان:
أحدهما: أرشدنا إلى قصد الحق، قاله يحيى.
الثاني: إلى عدل القضاء، قاله السدي.
{ إن هذا أخي } فيه وجهان:
أحدهما: يعني على ديني، قاله ابن مسعود.
الثاني: يعني صاحبي، قاله السدي.
{ له تسع وتسعونَ نعجةً وليَ نعجةٌ واحدةٌ } فيها وجهان:
أحدهما: أنه أراد تسعاً وتسعين امرأة، فكنى عنهن، بالنعاج، قاله ابن عيسى. قال قطرب: النعجة هي المرأة الجميلة اللينة.
الثاني: أنه أراد النعاج ليضربها مثلاً لداود، قاله الحسن.
{ فقال أكفلنيها } فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: ضمها إليَّ، قاله يحيى.
الثاني: أعطنيها، قاله الحسن.
الثالث: تحوّل لي عنها، قاله ابن عباس وابن مسعود.
{ وعزّني في الخطاب } فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أي قهرني في الخصومة، قاله قتادة.
الثاني: غلبني على حقي، من قولهم من عزيز أي من غلب سلب، قاله ابن عيسى.
الثالث: معناه إن تكلم كان أبين، وإن بطش كان أشد مني، وإن دعا كان أكثر مني، قاله الضحاك.
قوله عز وجل: { قال لقد ظَلَمَكَ بسؤال نعجتِك إلى نعِاجه } فإن قيل فكيف يحكم لأحد الخصمين على الآخر بدعواه؟ ففيه جوابان:
أحدهما: أن الآخر قد كان أقر بذلك فحكم عليه داود عليه السلام بإقراره، فحذف اكتفاء بفهم السامع، قاله السدي.
الثاني: إن كان الأمر كما تقول لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه.
{ وإنَّ كثيراً من الخُلَطاءِ } يحتمل وجهين:
أحدهما: الأصحاب.
الثاني: الشركاء.
{ لَيَبْغِي بعضهم على بعض } أي يتعدى.
{ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } تقديره فلا يبغي بعضهم على بعض، فحذف اكتفاء بفهم السامع.
{ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } فيه وجهان:
أحدهما: وقليل ما فيه من يبغي بعضهم على بعض، قاله ابن عباس.
الثاني: وقليل من لا يبغي بعضهم على بعض، قاله قتادة.
وفي { ما } التي في قوله { وقليل ما هم } وجهان:
أحدهما: انها فضلة زائدة تقديره: وقليل هم.
الثاني: أنها بمعنى الذي: تقديره: وقليل الذي هم كذلك.
{ وظن داود أنما فتناه } قال قتادة أي علم داود أنما فتناه وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: اختبرناه، قاله ابن عباس.
الثاني: ابتليناه، قاله السدي.
الثالث: شددنا عليه في التعبد، قاله ابن عيسى.
{ فاستغفر ربَّه } من ذنبه. قال قتادة: قضى نبي الله على نفسه ولم يفطن لذلك، فلما تبين له الذنب استغفر ربه.
واختلف في الذنب على أربعة أقاويل:
أحدها: أنه سمع من أحد الخصمين وحكم له قبل سماعه من الآخر.
الثاني: هو أن وقعت عينه على امرأة أوريا بن حنان واسمها اليشع وهي تغتسل فأشبع نظره منها حتى علقت بقلبه.
الثالث: هو ما نواه إن قتل زوجها تزوج بها وأحسن الخلافة عليها، قاله الحسن.
وحكى السدي عن علي كرم الله وجهه قال: لو سمعت رجلاً يذكر أن داود قارف من تلك المرأة محرَّماً لجلدته ستين ومائة لأن حد الناس ثمانون وحد الأنبياء ستون ومائة، حَدّان.
{ وخَرّ راكعاً وأناب } أي خرّ ساجداً وقد يعبر عن السجود بالركوع، قال الشاعر:

فخر على وجهه راكعاً وتاب إلى الله من كل ذنب

قال مجاهد: مكث أربعين يوماً ساجداً لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموع عينه فغطى رأسه إلى أن قال الله تعالى:
{ فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب } أي مرجع.
في الزلفى وجهان:
أحدهما: الكرامة، وهو المشهور.
الثاني: الرحمة قاله الضحاك. فرفع رأسه وقد قرح جبينه.
واختلف في هذه السجدة على قولين:
أحدهما: أنها سجدة عزيمة تسجد عند تلاوتها في الصلاة وغير الصلاة، قاله أبو حنيفة.
الثاني: أنها سجدة شكر لا يسجد عند تلاوتها لا في الصلاة، ولا في غير الصلاة وهو قول الشافعي.
قال وهب بن منبه: فمكث داود حيناً لا يشرب ماء إلا مزجه بدموعه، ولا يأكل طعاماً إلا بلّه بدموعه، ولا ينام على فراش إلا غرقه بدموعه. وحكي عن داود أنه كان يدعو على الخطائين فلما أصاب الخطيئة كان لا يمر بواد إلا قال: اللهم اغفر للخاطئين لعلك تغفر لي معهم.