التفاسير

< >
عرض

لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ
١
وَلاَ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ
٢
أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ
٣
بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ
٤
بَلْ يُرِيدُ ٱلإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ
٥
يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلْقِيَامَةِ
٦
فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ
٧
وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ
٨
وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ
٩
يَقُولُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ
١٠
كَلاَّ لاَ وَزَرَ
١١
إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمُسْتَقَرُّ
١٢
يُنَبَّأُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ
١٣
بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
١٤
وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ
١٥
-القيامة

النكت والعيون

قوله تعالى: { لا أُقسِم بيومِ القيامةِ } اختلفوا في " لا" المبتدأ بها في أول الكلام على ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنها صلة دخلت مجازاً ومعنى الكلام أقسم بيوم القيامة، قاله ابن عباس وابن جبير وأبو عبيدة، ومثله قول الشاعر:

تَذكّرْت ليلى فاعْتَرْتني صَبابةٌ وكاد ضمير القلْبِ لا يتَقطّع.

الثاني: أنها دخلت توكيداً للكلام كقوله: لا والله، وكقول امرىء القيس:

فلا وأبيكِ ابنةَ العامريّ لا يدّعي القوم أني أَفِرْ.

قاله أبو بكر بن عياش.
الثالث: أنها رد لكلام مضى من كلام المشركين في إنكار البعث، ثم ابتدأ القسم فقال: أقسم بيوم القيامة، فرقاً بين اليمين المستأنفة وبين اليمين تكون مجدداً، قاله الفراء.
وقرأ الحسن: لأقْسِمُ بيوم القيامة، فجعلها لاماً دخلت على ما أُقسم إثباتاً للقسم، وهي قراءة ابن كثير.
{ ولا أُقْسِم بالنّفْسِ اللوّامةِ } فيه وجهان:
أحدهما: أنه تعالى أقسم بالنفس اللوامة كما أقسم بيوم القيامة فيكونان قَسَمَيْن، قاله قتادة.
الثاني: أنه أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة، قاله الحسن، ويكون تقدير الكلام: أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة. وفي وصفها باللوامة قولان:
أحدهما: أنها صفة مدح، وهو قول من جعلها قسماً:
الثاني: أنها صفة ذم، وهو قول من نفى أن يكون قسماً.
فمن جعلها صفة مدح فلهم في تأويلها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها التي تلوم على ما فات وتندم، قاله مجاهد، فتلوم نفسها على الشر لم فعلته، وعلى الخير أن لم تستكثر منه.
الثاني: أنها ذات اللوم، حكاه ابن عيسى.
الثالث: أنها التي تلوم نفسها بما تلوم عليه غيرها.
فعلى هذه الوجوه الثلاثة تكون اللوامة بمعنى اللائمة.
ومن جعلها صفة ذم فلهم في تأويلها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها المذمومة، قاله ابن عباس.
الثاني: أنها التي تلام على سوء ما فعلت.
الثالث: أنها التي لا صبر لها على محن الدنيا وشدائدها، فهي كثيرة اللوم فيها، فعلى هذه الوجوه الثلاثة تكون اللوامة بمعنى الملومة.
{ أيَحْسَب الإنسان } يعني الكافر.
{ أنْ لن نَجْمَعَ عِظامَه } فنعيدها خلقاً جديداً بعد أن صارت رفاتاً.
{ بلى قادِرينَ على أنْ نُسوّيَ بَنانه } في قوله " بلى" وجهان:
أحدهما: أنه تمام قوله " أن لن نجمع عظامه" أي بلى نجمعها، قاله الأخفش.
الثاني: أنها استئناف بعد تمام الأول بالتعجب بلى قادرين، الآية وفيه وجهان:
أحدهما: بلى قادرين على أن نسوي مفاصله ونعيدها للبعث خلقاً جديداً، قاله جرير بن عبد العزيز.
الثاني: بلى قادرين على أن نجعل كفه التي يأكل بها ويعمل حافر حمار أو خف بعير، فلا يأكل إلا بفيه، ولا يعمل بيده شيئاً، قاله ابن عباس وقتادة.
{ بل يريد الإنسان ليَفْجُرَ أمامَه } فيه أربعة تأويلات:
أحدها: معناه أن يقدم الذنب ويؤخر التوبة، قاله القاسم بن الوليد.
الثاني: يمضي أمامه قدُماً لا ينزع عن فجور، قاله الحسن.
الثالث: بل يريد أن يرتكب الآثام في الدنيا لقوة أمله، ولا يذكر الموت، قاله الضحاك.
الرابع: بل يريد أن يكذب بالقيامة ولا يعاقب بالنار، وهو معنى قول ابن زيد.
ويحتمل وجهاً خامساً: بل يريد أن يكذب بما في الآخرة كما كذب بما في الدنيا، ثم وجدت ابن قتيبة قد ذكره وقال إن الفجور التكذيب واستشهد بأن أعرابياً قصد عمر بن الخطاب وشكا إليه نقب إبله ودبرها، وسأله أن يحمله على غيرها، فلم يحمله، فقال الأعرابي:

أقسم بالله أبو حفصٍ عُمَرْ ما مسّها مِن نَقَبٍ ولا دَبَرْ
فاغفر له اللهم إنْ كان فجَرْ

يعني إن كان كذبني بما ذكرت.
{ فإذا بَرِقَ البصرُ } فيه قراءتان:
إحداهما: بفتح الراء، وقرأ بها أبان عن عاصم، وفي تأويلها وجهان:
أحدهما: يعني خفت وانكسر عند الموت، قاله عبد الله بن أبي إسحاق.
الثاني: شخص وفتح عينه عند معاينة ملك الموت فزعاً، وأنشد الفراء:

فنْفسَكَ فَانْعَ ولا تْنعَني وداوِ الكُلومَ ولا تَبْرَقِ.

أي ولا تفزع من هول الجراح.
الثانية: بكسر الراء وقرأ بها الباقون، وفي تأويلها وجهان:
أحدهما: عشى عينيه البرق يوم القيامة، قاله أشهب العقيلي، قال الأعشى:

وكنتُ أرى في وجه مَيّةَ لمحةً فأبرِق مَغْشيّاً عليّ مكانيا.

الثاني: شق البصر، قاله أبو عبيدة وأنشد قول الكلابي:

لما أتاني ابن عمير راغباً أعطيتُه عيساً صِهاباً فبرق.

{ وخَسَفَ القمرُ } أي ذهب ضوؤه، حتى كأنّ نوره ذهب في خسفٍ من الأرض.
{ وجُمِعَ الشمسُ والقمرُ } فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه جمع بينهما في طلوعهما من المغرب [أسودين مكورين] مظلمين مقرنين.
الثاني: جمع بينهما في ذهاب ضوئهما بالخسوف لتكامل إظلام الأرض على أهلها، حكاه ابن شجرة.
الثالث: جمع بينهما في البحر حتى صارا نار الله الكبرى.
{ يقولُ الإنسانُ يومئذٍ أين المفرُّ } أي أين المهرب، قال الشاعر:

أين أفِرّ والكباشُ تنتطحْ وأيّ كبشٍ حاد عنها يفتضحْ.

ويحتمل وجهين:
أحدهما: " أين المفر" من الله استحياء منه.
الثاني: " أين المفر" من جهنم حذراً منها.
ويحتمل هذا القول من الإنسان وجهين:
أحدهما: أن يكون من الكافر خاصة من عرصة القيامة دون المؤمن، ثقة المؤمن ببشرى ربه.
الثاني: أن يكون من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوه منها.
ويحتمل هذا القول وجهين:
أحدهما: من قول الله للإنسان إذا قاله " أين المفر" قال الله له " كلاّ لا وَزَرَ" الثاني: من قول الإنسان إذا علم أنه ليس له مفر قال لنفسه " كلا لا وَزَرَ" { كلاّ لا وَزَرَ } فيه أربعة أوجه:
أحدها: أي لا ملجأ من النار، قاله ابن عباس.
الثاني: لا حصن، قاله ابن مسعود.
الثالث: لا جبل، [قاله الحسن].
الرابع: لا محيص، قاله ابن جبير.
{ إلى ربِّك يومئذٍ المُسْتَقَرُّ } فيه وجهان:
أحدهما: أن المستقر المنتهى، قاله قتادة.
الثاني: أنه استقرار أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، قاله ابن زيد.
{ يُنَبّأ الإنسان يوميئذٍ بما قدَّمَ وأَخّرَ } يعني يوم القيامة وفي " بما قدم وأخر" خمسة تأويلات:
أحدها: ما قدم قبل موته من خير أو شر يعلم به بعد موته، قاله ابن عباس وابن مسعود.
الثاني: ما قدم من معصية، وأخر من طاعة، قاله قتادة.
الثالث: بأول عمله وآخره، قاله مجاهد.
الرابع: بما قدم من الشر وأخر من الخير، قال عكرمة.
الخامس: بما قدم من فرض وأخر من فرض، قاله الضحاك.
ويحتمل سادساً: ما قدم لدنياه، وما أخر لعقباه.
{ بل الإنسانُ على نَفْسِه بَصيرةٌ } فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: أنه شاهد على نفسه بما تقدم به الحجة عليه، كما قال تعالى: { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً }.
الثاني: أن جوارحه شاهدة عليه بعمله، قاله ابن عباس، كما قال تعالى: { اليوم نَخْتِمُ على أفواههم وتُكَلِّمنا أيْديهم وتشْهدُ أرجُلُهم بما كانوا يكْسِبون }.
الثالث: معناه بصير بعيوب الناس غافل عن عيب نفسه فيما يستحقه لها وعليها من ثواب وعقاب.
والهاء في " بصيرة" للمبالغة.
{ ولو أَلْقَى معاذيرَه } فيه أربعة تأويلات:
أحدها: معناه لو اعتذر يومئذ لم يقبل منه، قاله قتادة.
الثاني: يعني لو ألقى معاذيره أي لو تجرد من ثيابه، قاله ابن عباس.
الثالث: لو أظهر حجته، قاله السدي وقال النابغة:

لدىّ إذا ألقى البخيلُ معاذِرَه.

الرابع: معناه ولو أرخى ستوره، والستر بلغة اليمن معذار، قاله الضحاك، قال الشاعر:

ولكنّها ضَنّتْ بمنزلِ ساعةٍ علينا وأطّت فوقها بالمعاذرِ

ويحتمل خامساً: أنه لو ترك الاعتذار واستسلم لم يُترك.