التفاسير

< >
عرض

وَٱلضُّحَىٰ
١
وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ
٢
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ
٣
وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ
٤
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ
٥
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىٰ
٦
وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ
٧
وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَىٰ
٨
فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ
٩
وَأَمَّا ٱلسَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ
١٠
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ
١١
-الضحى

النكت والعيون

قوله تعالى { والضُّحَى } هو قَسَمٌ، وفيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه أول ساعة من النهار إذا ترحلت الشمس، قاله السدي.
الثاني: أنه صدر النهار، قاله قتادة.
الثالث: هو طلوع الشمس، قاله قطرب.
الرابع: هو ضوء النهار في اليوم كله، مأخوذ من قولهم ضحى فلان الشمس، إذا ظهر لها، قاله مجاهد، والاشتقاق لعلي بن عيسى.
{ والليلِ إذا سَجى } وهو قَسَم ثان، وفيه خمسة تأويلات:
أحدها: إذا أقبل، قاله سعيد بن جبير.
الثاني: إذا أظلم، قاله ابن عباس.
الثالث: إذا استوى، قاله مجاهد.
الرابع: إذا ذهب، قاله ابن حنطلة عن ابن عباس.
الخامس: إذا سكن الخلق فيه، قاله عكرمة وعطاء وابن زيد، مأخوذ من قولهم سجى البحر إذا سكن، وقال الراجز:

يا حبذا القمراءُ والليلِ الساج وطُرُقٌ مِثْلُ ملاءِ النسّاج

{ ما ودَّعَكَ ربُّكَ وما قَلَى } اختلف في سبب نزولها، فروى الأسود بن قيس عن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رُمي بحجر في إصبعه فدميت، فقال:

هل أنت إلاّ أصبعٌ دَميتِ وفي سبيل اللَّه ما لَقِيتِ

قال فمكث ليلتين أو ثلاثاً لا يقوم، فقالت له امرأة يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فنزل عليه: { ما ودعك ربك وما قلى }. وروى هشام عن عروة عن أبيه قال: أبطأ جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم فجزع لذلك جزعاً شديداً، قالت عائشة: فقال كفار قريش: إنا نرى ربك قد قلاك، مما رأوا من جزعه، فنزلت: { ما ودعك ربك وما قلى }، وروى ابن جريج أن جبريل لبث عن النبي صلى الله عليه وسلم اثنا عشرة ليلة فقال المشركون: لقد ودع محمداً ربُّه، فنزلت: { ما ودعك ربك وما قلى }.
وفي " وَدَّعَك" قراءتان:
أحدهما: قراءة الجمهور ودّعك، بالتشديد، ومعناها: ما انقطع الوحي عنك توديعاً لك.
والثانية: بالتخفيف، ومعناها: ما تركك إعراضاً عنك.
" وما قلى" أي ما أبغضك، قال الأخطل:

المهْديات لمن هوين نسيئةً والمحْسِنات لمن قَلَيْنَ مقيلاً

{ ولَلآخرةُ خير لك مِنَ الأُولى } روى ابن عباس قال: عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو مفتوح على أمته من بعده، فسُرّ بذلك، فأنزل الله تعالى: " وللآخرة خير لك من الأُولى" الآية.
وفي قوله { وللآخرة خير لك من الأولى } وجهان:
أحدهما: وللآخرة خير لك مما أعجبك في الدنيا، قاله يحيى بن سلام.
الثاني: أن مآلك في مرجعك إلى الله تعالى أعظم مما أعطاك من كرامة الدنيا، قاله ابن شجرة.
{ ولسوف يُعْطيك ربُّك فَتَرْضَى } يحتمل وجهين:
أحدهما: يعطيك من النصر في الدنيا، وما يرضيك من إظهار الدين.
الثاني: يعطيك المنزلة في الآخرة، وما يرضيك من الكرامة.
{ ألمْ يَجِدْك يتيماً فآوَى } واليتيم بموت الأب، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أبويه وهو صغير، فكفله جده عبد المطلب، ثم مات فكفله عمه أبو طالب، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه أراد يتم الأبوة بموت من فقده من أبويه، فعلى هذا في قوله تعالى " فآوى" وجهان:
أحدهما: أي جعل لك مأوى لتربيتك، وقيمّاً يحنو عليك ويكفلك وهو أبو طالب بعد موت عبد الله وعبد المطلب، قاله مقاتل.
الثاني: أي جعل لك مأوى نفسك، وأغناك عن كفالة أبي طالب، قاله الكلبي.
والوجه الثاني: أنه أراد باليتيم الذي لا مثيل له ولا نظير، من قولهم درة يتيمة، إذا لم يكن لها مثيل،فعلى هذا في قوله " فآوى" وجهان:
أحدهما: فآواك إلى نفسه واختصك برسالته.
الثاني: أن جعلك مأوى الأيتام بعد أن كنت يتيماً، وكفيل الأنام بعد أن كنت مكفولاً، تذكيراً بنعمه عليه، وهو محتمل.
{ وَوَجَدَكَ ضالاًّ فَهَدَى } فيه تسعة تأويلات:
أحدها: وجدك لا تعرف الحق فهداك إليه، قاله ابن عيسى.
الثاني: ووجدك ضالاً عن النبوة فهداك إليها، قاله الطبري.
الثالث: ووجد قومك في ضلال فهداك إلى إرشادهم، وهذا معنى قول السدي.
الرابع: ووجدك ضالاً عن الهجرة فهداك إليها.
الخامس: ووجدك ناسياً فأذكرك، كما قال تعالى: { أن تَضِل إحداهما }.
السادس: ووجدك طالباً القبلة فهداك إليها، ويكون الضلال بمعنى الطلب، لأن الضال طالب.
السابع: ووجدك متحيراً في بيان من نزل عليك فهداك إليه، فيكون الضلال بمعنى التحير، لأن الضال متحير.
الثامن: ووجدك ضائعاً في قومك فهداك إليه، ويكون الضلال بمعنى الضياع، لأن الضال ضائع.
التاسع: ووجدك محباً للهداية فهداك إليها، ويكون الضلال بمعنى المحبة، ومنه قوله تعالى: { قالوا تاللَّه إنك لفي ضلالك القديم } أي في محبتك، قال الشاعر:

هذا الضلال أشاب مِنّي المفرقا والعارِضَيْن ولم أكنْ مُتْحقّقاً
عَجَباً لَعِزّةَ في اختيارِ قطيعتي بعد الضّلالِ فحبْلُها قد أخْلقاً

وقرأ الحسن: ووجدَك ضالٌّ فهُدِي، أي وجَدَك الضالُّ فاهتدى بك، { ووجَدَك عائلاً فأَغْنَى } فيه أربعة أوجه:
أحدها: وجدك ذا عيال فكفاك، قاله الأخفش، ومنه قول جرير:

الله أنْزَلَ في الكتابِ فَرِيضةً لابن السبيل وللفقير العائلِ

الثاني: فقيراً فيسَّر لك، قاله الفراء، قال الشاعر:

وما يَدْري الفقيرُ متى غناه وما يَدْري الغنيُّ متى يَعيِلُ

أي متى يفتقر.
الثالث: أي وجدك فقيراً من الحُجج والبراهين، فأغناك بها.
الرابع: ووجدك العائلُ الفقير فأغناه الله بك، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بصوته الأعلى ثلاث مرات:
" يَمُنّ ربي عليّ وهو أهلُ المَنّ"
{ فأمّا اليتيمَ فلا تَقْهَرْ } فيه خمسة أوجه:
أحدها: فلا تحقر، قاله مجاهد.
الثاني: فلا تظلم، رواه سفيان.
الثالث: فلا تستذل، حكاه ابن سلام.
الرابع: فلا تمنعه حقه الذي في يدك، قاله الفراء.
الخامس: ما قاله قتادة: كن لليتيم كالأب الرحيم، وهي في قراءة ابن مسعود: فلا تكْهَر، قاله أبو الحجاج: الكهر الزجر.
روى أبو عمران الجوني عن أبي هريره أن رجلاً شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه، فقال:
" إن أردت أن يلين قلبك فامسح رأس اليتيم وأطْعِم المسكينَ"
{ وأَمّا السائلَ فلا تَنْهَر } في رده إن منعته، ورُدّه برحمة ولين، قاله قتادة.
الثاني: السائل عن الدين فلا تنهره بالغلظة والجفوة، وأجِبْهُ برفق ولين، قاله سفيان.
{ وأمّا بِنَعْمِة ربِّكَ فحدِّثْ } في هذه النعمة ثلاثة تأويلات:
أحدها: النبوة، قاله ابن شجرة، ويكون تأويل قوله فحدث أي ادعُ قومك.
الثاني: أنه القرآن، قاله مجاهد، ويكون قوله: فحدث أي فبلّغ أمتك.
الثالث: ما أصاب من خير أو شر، قاله الحسن.
" فحدث" فيه على هذا وجهان:
أحدهما: فحدّث به الثقة من إخوانك، قاله الحسن.
الثاني: فحدِّث به نفسك، وندب إلى ذلك ليكون ذِكرها شكراً.