التفاسير

< >
عرض

أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
١٠٠
وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
١٠١
وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَٰـقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
١٠٢
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ وٱتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
١٠٣
-البقرة

معالم التنزيل

قوله تعالى { أَوَ كُلَّمَا } واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام { عَـٰهَدُواْ عَهْدًا } يعني اليهود عاهدوا لئن خرج محمد لَيؤمِنُنَّ به، فلما خرج كفروا به.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخذ الله عليهم من الميثاق وعهد إليهم في محمد أن يؤمنوا به، قال مالك بن الصيف: والله ما عُهِدَ إلينا في محمد عهدٌ، فأنزل الله تعالىٰ هذه الآية، يدل عليه قراءة أبي رجاء العطاردي «أو كلما عوهدوا» فجعلهم مفعولين، وقال عطاء: هي العهود التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين اليهود أن لا يعاونوا المشركين على قتاله فنقضوها كفعل بني قريظة والنضير، دليله قوله تعالىٰ: { { الَّذينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ } [الأنفال: 56] { نَّبَذَهُ } طرحه ونقضه { فَرِيقٌ } طوائف { مِّنْهُم } من اليهود { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ } يعني محمداً { مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ كِتَـٰبَ ٱللَّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } يعني التوراة وقيل: القرآن { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } قال الشعبي: كانوا يقرؤون التوراة ولا يعملون بها، وقال سفيان بن عيينة: أدرجوها في الحرير والديباج وحلوها بالذهب والفضة ولم يعملوا بها فذلك نبذهم لها.

قوله تعالى: { وَٱتَّبَعُواْ } يعني اليهود { مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ } أي: ما تَلَتْ، والعرب تضع المستقبل موضع الماضي، والماضي موضع المستقبل، وقيل: ما كانت تتلو أي تقرأ، قال ابن عباس رضي الله عنه: تتبع وتعمل به، وقال عطاء تحدث وتكلم به { عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ } أي ملكه وعهده.

وقصة الآية: أن الشياطين كتبوا السحر والنيرنجيات على لسان آصف بن برخيا هذا ما علَّم آصف بن برخيا سليمان الملك، ثم دفنوها تحت مصلاه حتى نزع الله الملك عنه ولم يشعر بذلك سليمان فلما مات استخرجوها وقالوا للناس: إنما ملكهم سليمان بها فتعلموه فأما علماء بني اسرائيل وصلحاؤهم فقالوا: معاذ الله أن يكون هذا من علم الله، وأما السِّفْلَة، فقالوا: هذا علم سليمان، وأقبلوا على تعلمه، ورفضوا كتب أنبيائهم، وفشت الملامة على سليمان فلم يزل هذا حالهم وفعلهم حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه براءة سليمان، هذا قول الكلبي.

وقال السدي: كانت الشياطين تصعد إلى السماء، فيسمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت وغيره، فيأتون الكهنة ويخلطون بما يسمعون في كل كلمة سبعين كذبة ويخبرونهم بها فَكُتِبَ ذلك وفشا في بني إسرائيل أن الجن يعلمون الغيب، فبعث سليمان في الناس وجمع تلك الكتب وجعلها في صندوق ودفنه تحت كرسيه وقال: لا أسمع أحداً يقول إن الشيطان يعلم الغيب إلا ضربت عنقه، فلما مات سليمان وذهب العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان ودفنه الكتب، وخلف من بعدهم خلف، تمثل الشيطان على صورة إنسان فأتى نفراً من بني إسرائيل فقال: أدلكم على كنز لا تأكلونه أبداً قالوا: نعم فذهب معهم فأراهم المكان الذي تحت كرسيه، فحفروا فأقام ناحية فقالوا له: أدن قال: لا أحضر، فإن لم تجدوه فاقتلوني، وذلك أنه لم يكن أحد من الشياطين يدنو من الكرسي إلا احترق، فحفروا وأخرجوا تلك الكتب، فقال الشيطان لعنه الله: إن سليمان كان يضبط الجن والإِنس والشياطين والطير بهذا، ثم طار الشيطان عنهم، وفشا في الناس أن سليمان كان ساحراً، وأخذوا تلك الكتب (واستعملوها) فلذلك أكثر ما يوجد السحر في اليهود، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم برأ الله تعالىٰ سليمان من ذلك، وأنزل في عذر سليمان: { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ } بالسحر، وقيل: لم يكن سليمان كافراً بالسحر ويعمل به { وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيَاطِينَ كَفَرُواْ } قرأ ابن عباس رضي الله عنه والكسائي وحمزة؛ «لكن»، خفيفة النون، «والشياطين»، رفع، وقرأ الآخرون ولكنَّ مشددة النون «والشياطين» نصب، وكذلك { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ } [الأنفال: 17] { { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } [الأنفال: 17] ومعنى ولكن: نفي الخبر الماضي وإثبات المستقبل.

{ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ } قيل: معنى السحر العلم والحذق بالشيء قال الله تعالىٰ: { { وَقَالُواْ يَٰأَيُّهَ ٱلسَّاحِرُ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ } [الزخرف: 49] أي: العالم، والصحيح: أن السحر عبارة عن التمويه والتخييل، والسحر وجوده حقيقة عند أهل السنة، وعليه أكثر الأمم، ولكن العمل به كفر، حكي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: السحر يخيل ويمرض وقد يقتل، حتى أوجب القصاص على من قتل به فهو من عمل الشيطان، يتلقاه الساحر منه بتعليمه إياه، فإذا تلقاه منه استعمله في غيره، وقيل: إنه يؤثر في قلب الأعيان فيجعل الآدمي على صورة الحمار ويجعل الحمار على صورة الكلب، والأصح أن ذلك تخييل قال الله تعالىٰ: { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ } [طه: 66] لكنه يؤثر في الأبدان بالأمراض والموت والجنون، وللكلام تأثير في الطباع والنفوس، وقد يسمع الإِنسان ما يكره فيحمى ويغضبُ وربما يُحم منه، وقد مات قوم بكلام سمعوه فهو بمنزلة العوارض والعلل التي تؤثر في الأبدان.

قوله عز وجل { وَمَآ أُنزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ } أي ويعملون الذي أنزل على الملكين أي إلهاماً وعلماً، فالإِنزال بمعنى الإِلهام والتعليم، وقيل: واتبعوا ما أنزل على الملكين وقرأ ابن عباس والحسن الملِكين بكسر اللام، وقال ابن عباس: هما رجلان ساحران كانا ببابل، وقال الحسن: عِلجان لأن الملائكة لا يعلمون السحر.

وبابل هي بابل العراق سميت بابل لتبلبل الألسنة بها عند سقوط صرح نمرود أي تفرقها، قال ابن مسعود: بابل أرض الكوفة، وقيل: جبل دماوند، والقراءة المعروفة على الملكين بالفتح. فإن قيل: كيف يجوز تعليم السحر من الملائكة؟ قيل: له تأويلان: أحداهما، أنهما لا يتعمدان التعليم لكن يصفان السحر ويذكران بطلانه ويأمران باجتنابه، والتعليم بمعنى الإِعلام، فالشقي يترك نصيحتهما ويتعلم السحر من صنعتهما.

والتأويل الثاني: وهو الأصح: أن الله تعالىٰ امتحن الناس بالملكين في ذلك الوقت فمن شقى يتعلم السحر منهما ويأخذه عنهما ويعمل به فيكفر به، ومن سعد يتركه فيبقى على الإيمان، ويزداد المعلمان بالتعليم عذاباً، ففيه ابتلاء للمعلم والمتعلم ولله أن يمتحن عباده بما شاء، فله الأمر والحكم.

قوله عز وجل { هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ } اسمان سريانيان وهما في محل الخفض على تفسير الملكين إلا أنهما نصبا لعجمتهما ومعرفتهما، وكانت قصتهما على ما ذكر ابن عباس والمفسرون: أن الملائكة رأوا ما يصعد إلى السماء من أعمال بني آدم الخبيثة في زمن إدريس عليه السلام فعيروهم وقالوا: هؤلاء الذين جعلتهم في الأرض خليفة واخترتهم فهم يعصونك فقال الله تعالىٰ: لو أنزلتكم إلى الأرض وركَّبت فيكم ما ركبت فيهم لركِبتم مثل ما ركبوا فقالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نعصيك قال لهم الله تعالىٰ: فاختاروا ملكين من خياركم أُهِبطهما إلى الأرض، فاختاروا هاروت وماروت وكانا من أصلح الملائكة وأعبدهم، وقال الكلبي: قال الله تعالىٰ لهم: اختاروا ثلاثة فاختاروا عَزا وهو هاروت وعزايا وهو ماروت - غُير إسمهما لما قارفا الذنب - وعزائيل، فركب الله فيهم الشهوة وأهبطهم إلى الأرض وأمرهم أن يحكموا بين الناس بالحق، ونهاهم عن الشرك والقتل بغير الحق والزنا وشرب الخمر، فأما عزائيل فإنه لما وقعت الشهوة في قلبه استقبل ربه وسأله أن يرفعه إلى السماء، فأقاله فسجد أربعين سنة لم يرفع رأسه، ولم يزل بعد ذلك مطأطئاً رأسه حياء من الله تعالىٰ.

وأما الآخران: فإنهما ثبتا على ذلك وكانا يقضيان بين الناس يومهما، فإذا أمسيا ذكرا اسم الله الأعظم وصعدا إلى السماء، قال قتادة: فما مر عليهما شهر حتى افتُتِنَا. قالوا جميعاً أنه اختصمت إليهما ذات يوم الزهرة وكانت من أجمل النساء، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: وكانت من أهل فارس وكانت ملكة في بلدها فلما رأياها أخذت بقلوبهما فراوداها عن نفسها فأبت وانصرفت ثم عادت في اليوم الثاني ففعلا مثل ذلك فأبت وقالت: لا إلا أن تعبدا ما أعبد وتصليا لهذا الصنم وتقتلا النفس وتشربا الخمر، فقالا: لا سبيل إلى هذه الأشياء فإن الله تعالىٰ قد نهانا عنها، فانصرفت ثم عادت في اليوم الثالث ومعها قدح من خمر، وفي أنفسهما من الميل إليها ما فيها فراوداها عن نفسها فعرضت عليهما ما قالت بالأمس فقالا: الصلاة لغير الله عظيم، وقتل النفس عظيم، وأهون الثلاثة شرب الخمر، فشربا الخمر فانتشيا ووقعا بالمرأة، فزنيا فلما فرغا رآهما إنسان فقتلاه، قال الربيع بن أنس: وسجدا للصنم، فمسخ الله الزهرة كوكباً - وقال بعضهم: جاءتهما امرأة من أحسن الناس تخاصم زوجها فقال أحدهما للآخر: هل سقط في نفسك مثل الذي سقط في نفسي (من حب هذه)؟ قال: نعم فقال: وهل لك أن تقضي لها على زوجها بما تقول؟ فقال له صاحبه: أما تعلم ما عند الله من العقوبة والعذاب؟ فقال له صاحبه: أما تعلم ما عند الله من العفو والرحمة فسألاها نفسها، فقالت: لا إلا أن تقتلاه فقال أحدهما: أما تعلم ما عند الله من العقوبة والعذاب؟ فقال صاحبه: أمَا تعلم ما عند الله من العفو والرحمة فقتلاه ثم سألاها نفسها، فقالت: لا، إن لي صنماً أعبده، إن انتما صليتما معي له: فَعَلْتُ، فقال أحدهما لصاحبه مثل القول الأول، فقال صاحبه مثله، فصليا معها له فمسخت شهاباً.

قال ابن أبي طالب رضي الله عنه والكلبي والسدي: إنها قالت لهما حين سألاها نفسها: لن تدركاني حتى تخبراني بالذي تصعدان به إلى السماء فقالا: باسم الله الأكبر، قالت: فما أنتم تدركاني حتى تعلمانيه، فقال أحدهما لصاحبه: علمها فقال: إني أخاف الله رب العالمين، قال الآخر: فأين رحمة الله تعالىٰ؟ فعلماها ذلك فتكلمت به، فصعدت إلى السماء فمسخها الله كوكباً، فذهب بعضهم إلى أنها هي الزهرة بعينها وأنكر الآخرون هذا وقالوا: إن الزهرة من الكواكب السبعة السيارة التي أقسم الله بها فقال: { { فَلا أُقْسِمُ بِالخُنَّسِ ٱلجَوَارِ ٱلكُنَّسِ } [التكوير: 15-16] والتي فتنت هاروت وماروت امرأة كانت تسمى الزهرة لجمالها فلما بغت مسخها الله تعالىٰ شهاباً، قالوا: فلما أمسى هاروت ومارت بعدما قارفا الذنب همَّا بالصعود إلى السماء فلم تطاوعهما أجنحتهما، فعلما ما حل بهما (من الغضب) فقصدا إدريس النبي عليه السلام، فأخبراه بأمرهما وسألاه أن يشفع لهما إلى الله عز وجل، وقالا له: إنا رأيناك يصعد لك من العبادات مثل ما يصعد لجميع أهل الأرض فاستشفع لنا، إلى ربك ففعل ذلك إدريس عليه السلام فخيرهما الله بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا إذ علما أنه ينقطع فهما ببابل يعذبان.

واختلفوا في كيفية عذابهما فقال عبد الله بن مسعود: هما معلقان بشعورهما إلى قيام الساعة، وقال عطاء بن أبي رباح: رؤوسهما مصوبة تحت أَجنحتهما، وقال قتادة (كبِّلا) من أقدامهما إلى أصول أفخاذهما، وقال مجاهد: جعلا في جب مُلِئت ناراً، وقال عمر بن سعد: منكوسان يُضربان بسياط الحديد.

وروي أن رجلاً قصد هاروت وماروت لتعلم السحر فوجدهما معلقين بأرجلهما، مزرقة أعينهما، مسودة جلودهما، ليس بين ألسنتهما وبين الماء إلا أربع أصابع وهما يعذبان بالعطش، فلما رأى ذلك هاله مكانهما فقال: لا إلٰه إلا الله، فلما سمعا كلامه قالا له: من أنت؟ قال: رجل من الناس، قالا: من أي أمة أنت؟ قال: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قالا: أو قد بعث محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم قالا: الحمد لله، وأظهرا الاستبشار فقال الرجل: ومِمَّ استبشاركما؟ قال: إنه نبي الساعة وقد دنا انقضاء عذابنا.

قوله تعالى:{ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ } أَيْ أحداً، و «من» صلة { حَتَّىٰ } ينصحاه أولاً { يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } ابتلاء ومحنة { فَلاَ تَكْفُرْ } أي فلا تتعلم السحر فتعمل به فتكفر، وأصل الفتنة: الاختبار والامتحان، من قولهم: فَتَنْتُ الذهب والفضة إذ أذبتهما بالنار، ليتميز الجيد من الرديء، وإنما وحَّد الفتنة وهما اثنان، لأن الفتنة مصدر، والمصادر لا تثنى ولا تجمع، وقيل: إنهما يقولان «إنما نحن فتنة فلا تكفر» سبع مرات.

قال عطاء والسدي: فإن أبى إلا التعلم قالا له: ائت هذا الرماد (وأقبل عليه) فيخرج منه نور ساطع في السماء فذلك نور المعرفة، وينزل شيء أسود شبه الدخان حتى يدخل مسامعه وذلك غضب الله تعالىٰ، قال مجاهد: إن هاروت وماروت لا يصل إليهما أحد ويختلف فيما بينهما شيطان في كل مسألة اختلافة واحدة، { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } وهو أن يؤخِّذ كل واحد عن صاحبه، ويُبَغِّضَ كل واحد إلى صاحبه قال الله تعالىٰ: { وَمَا هُم } قيل أي: السحرة وقيل: الشياطين { بِضَآرِّينَ بِهِ } أي بالسحر { مِنْ أَحَدٍ } أي أحداً، { إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } أي: بعلمه وتكوينه، فالساحر يسحر والله يُكَوِّن.

قال سفيان الثوري: معناه إلا بقضائه وقدرته ومشيئته { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ } يعني: أن السحر يضرهم { وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ } يعني اليهود { لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ } أي اختار السحر { مَا لَهُ فِى ٱلأَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } أي في الجنة من نصيب { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ } باعوا به { أَنفُسَهُمْ } حظَّ أنفسهم، حيث اختاروا السحر والكفر على الدين والحق { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } فإن قيل: أليس قد قال «ولقد علموا لمن اشتراه» فما معنى قوله تعالى «لو كانوا يعلمون» بعدما أخبر أنهم علموا؟ قيل: أراد بقوله: «ولقد علموا» يعني الشياطين وقوله: «لو كانوا يعلمون» يعني اليهود وقيل: كلاهما في اليهود يعني: لكنهم لما لم يعملوا بما علموا فكأنهم لم يعلموا { وَلَوْ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ } بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن { وٱتَّقَوْاْ } اليهودية والسحر { لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ خَيْرٌ } لكان ثواب الله إياهم خيراً لهم { لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }.