التفاسير

< >
عرض

مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٠٦
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
١٠٧
أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ
١٠٨
-البقرة

معالم التنزيل

قوله عز وجل { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } وذلك أن المشركين قالوا: إن محمداً ما يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلاف ما يقوله إلا من تلقاء نفسه يقول اليوم قولا ويرجع عنه غداً كما أخبر الله: { { وَإِذَا بَدَّلنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوۤاْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ } [النحل: 101] وأنزل { مَا نَنسَخ مِنْ آيَةٍ أَو نُنسِهَا } فبين وجه الحكمة من النسخ بهذه الآية.

والنسخ في اللغة شيئان:

أحدهما: بمعنى التحويل والنقل ومنه نسخ الكتاب وهو أن يحول من كتاب إلى كتاب فعلى هذا الوجه كل القرآن منسوخ لأنه نسخ من اللوح المحفوظ.

والثاني: يكون بمعنى الرفع يقال: نسخت الشمس الظل أي ذهبت به وأبطلته. فعلى هذا يكون بعض القرآن ناسخاً وبعضه منسوخاً وهو المراد من الآية / وهذا على وجوه، أحدها: أن يثبت الخط وينسخ الحكم مثل آية الوصية للأقارب. وآية عدة الوفاء بالحول وآية التخفيف في القتال وآية الممتحنة ونحوها، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالىٰ { مَا نَنسَخْ مِن ءَايَةٍ } ما نثبت خطها ونبدل حكمها، ومنها أن ترفع تلاوتها ويبقى حكمها مثل آية الرجم، ومنها أن ترفع تلاوته أصلاً عن المصحف وعن القلوب كما روي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف: أن قوماً من الصحابة رضي الله عنهم قاموا ليلة ليقرؤوا سورة فلم يذكروا منها إلا بسم الله الرحمٰن الرحيم فغدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلك سورة رفعت تلاوتها وأحكامها" ، وقيل: كانت سورة الأحزاب مثل سورة البقرة، فرفع أكثرها تلاوة وحكماً، ثم من نسخ الحكم ما يرفع ويقام غيره مقامه، كما أن القبلة نسخت من بيت المقدس إلى الكعبة، والوصية للأقارب نسخت بالميراث وعدة الوفاء نسخت من الحول إلى أربعة أشهر وعشر، ومصابرة الواحد العشر في القتال نسخت بمصابرة الاثنين، ومنها ما يرفع ولا يُقام غيره مقامه، كامتحان النساء. والنسخ إنما يعترض على الأوامر والنواهي دون الأخبار.

أما معنى الآية فقوله { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ }، قراءة العامة بفتح النون وكسر السين من النسخ أي: نرفعها، وقرأ ابن عامر بضم النون وكسر السين من الإِنساخ وله وجهان.

أحدهما: ان نجعله كالمنسوخ.

والثاني: أن نجعله نسخة له يقال: نسخت الكتاب أي كتبته، وأنسخته غيري إذا جعلته نسخة له { أو نُنسِهَا } أي ننسها عن قلبك.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: نتركها لا ننسخها، قال الله تعالىٰ: { { نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة: 67] أي تركوه فتركهم وقيل { نُنسِهَا } أي: نأمر بتركها، يقال: أُنسيت الشيء إذا أُمرت بتركه، فيكون النسخ الأول من رفع الحكم واقامة غيره مقامه، والإِنساء يكون ناسخاً من غير اقامة غيره مقامه.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو أو ننسأها بفتح النون الأول والسين مهموزاً أي نؤخرها فلا نبدلها يقال: نسأ الله في أجله وأنسأ الله أجله، وفي معناه قولان: أحدهما: نرفع تلاوتها ونؤخر حكمها كما فعل في آية الرجم فعلى هذا يكون النسخ الأول بمعنى رفع التلاوة والحكم، والقول الثاني: قال سعيد بن المسيب وعطاء: أما ما نسخ من آية فهو ما قد نزل من القرآن جعلاه من النسخة أو ننسأها أي نؤخرها ونتركها في اللوح المحفوظ فلا تنزل.

{ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } أي بما هو أنفع لكم وأسهل عليكم وأكثر لأجركم، لا أنَّ آية خيرٌ من آية، لأن كلام الله واحد وكله خير { أَوْ مِثْلِهَا } في المنفعة والثواب فكل ما نسخ إلى الأيسر فهو أسهل في العمل وما نسخ إلى الأشق فهو في الثواب أكثر { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }؟ من النسخ والتبديل، لفظة استفهام، ومعناه تقرير، أي: إنك تعلم.

{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا لَكُم } يا معشر الكفار عند نزول العذاب { مِّن دُونِ ٱللَّهِ } مما سوى الله { مِن وَلِيٍّ } قريب وصديق وقيل: من والٍ وهو القيم بالأمور { وَلاَ نَصِيرٍ } ناصر يمنعكم من العذاب.

قوله: { أَمْ تُرِيدُونَ أن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ } نزلت في اليهود حين قالوا: يا محمد ائتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى موسى بالتوراة فقال تعالىٰ: { أَمْ تُرِيدُونَ } يعني أتريدون فالميم صلة وقيل: بل تريدون أن تسألوا رسولكم محمداً صلى الله عليه وسلم، { كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ } سأله قومه: أرنا الله جهرة وقيل: إنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً، كما أن موسى سأله قومه فقالوا: أرنا الله جهرة، ففيه منعهم عن السؤالات المقبوحة بعد ظهور الدلائل والبراهين { وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَـٰنِ } يستبدل الكفر بالإِيمان { فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } أخطأ وسط الطريق وقيل: قصد السبيل.