التفاسير

< >
عرض

سَلْ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٢١١
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
٢١٢
كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَٰتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٢١٣
-البقرة

معالم التنزيل

قوله تعالىٰ { سَل بَنِي إِسْرَٰءِيلَ } أي سل يا محمد يهود المدينة { كَمْ آتَيْنَـٰهُم } أعطينا آباءهم وأسلافهم { مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ } دلالة واضحة على نبوة موسى عليه السلام، مثل العصا واليد البيضاء، وفلق البحر وغيرها. وقيل: معناها الدلالات التي آتاهم الله في التوراة والإِنجيل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

{ وَمَن يُبَدِّلْ } يغير { نِعْمَةَ ٱللَّهِ } كتاب الله، وقيل: عهد الله وقيل: من ينكر الدلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ * زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الحَيَاةُ الدُّنْيَا } الأكثرون على أن المزيِن هو الله تعالىٰ، والتزيين من الله تعالىٰ هو أنه خلق الأشياء الحسنة والمناظر العجيبة، فنظر الخلق إليها بأكثر من قدرها فأعجبتهم ففتنوا بها، وقال الزجاج: زين لهم الشيطان، قيل نزلت هذه الآية في مشركي العرب أبي جهل واصحابه كانوا يتنعمون بما بسط الله لهم في الدنيا من المال ويكذبون بالمعاد { وَيَسْخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } أي يستهزؤون بالفقراء من المؤمنين.

قال ابن عباس: أراد بالذين آمنوا عبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وصهيباً وبلالاً وخباباً وأمثالهم، وقال مقاتل: نزلت في المنافقين عبد الله بن أبيّ وأصحابه، وكانوا يتنعمون في الدنيا ويسخرون من ضعفاء المؤمنين وفقراء المهاجرين ويقولون انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم، وقال عطاء: نزلت في رؤساء اليهود من بني قريظة والنضير وبني قينقاع سخروا من فقراء المهاجرين فوعدهم الله أن يعطيهم أموال بني قريظة والنضير بغير قتال { وَيَسْخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } لفقرهم { وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ } يعني هؤلاء الفقراء، { فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } لأنهم في أعلى عليين وهم في أسفل السافلين.

أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري أخبرنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمٰن البزاز أخبرنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافري أخبرنا إسحاق الدبري أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وقفت على باب الجنة فرأيت أكثر أهلها المساكين ووقفت على باب النار فرأيت أكثر أهلها النساء وإذا أهل الجَدِّ محبوسون إلا من كان منهم من أهل النار فقد أمر به إلى النار" .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل ثنا إسحاق بن ابراهيم حدثني عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال: " مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس ما رأيك في هذا؟ فقال رجل من أشراف الناس: هذا والله حريّ إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع، قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله إن هذا رجل من فقراء المسلمين هذا حري إن خطب أن لا ينكح وإن شفع أن لا يشفع وإن قال أن لا يسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا" .

{ وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } قال ابن عباس: يعني كثيراً بغير مقدار، لأن كل ما دخل عليه الحساب فهو قليل، يريد: يوسع على من يشاء ويبسط لمن يشاء من عباده، وقال الضحاك: يعني من غير تبعة يرزقه في الدنيا ولا يحاسبه في الآخرة، وقيل: هذا يرجع إلى الله تعالى، معناه: يقتر على من يشاء ويبسط لمن يشاء ولا يعطي كل أحد بقدر حاجته بل يعطي الكثير لمن لا يحتاج إليه ولا يعطي القليل من يحتاج إليه فلا يعترض عليه، ولا يحاسب فيما يرزق ولا يقال لِمَ أعطيت هذا وحرمت هذا؟ ولم أعطيت هذا أكثر مما أعطيت ذاك؟ وقيل معناه لا يخاف نفاذ خزائنه فيحتاج إلى حساب ما يخرج منها لأن الحساب من المعطي إنما يكون لما يخاف من نفاذ خزائنه.

قوله تعالىٰ: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } على دين واحد، قال مجاهد: أراد آدم وحده، كان أمة واحدة، قال: سمي الواحد بلفظ الجمع لأنه أصل النسل وأبو البشر، ثم خلق الله تعالىٰ حواء ونشر منهما الناس فانتشروا وكانوا مسلمين إلى أن قتل قابيل هابيل فاختلفوا { فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ } قال الحسن وعطاء: كان الناس من وقت وفاة آدم إلى مبعث نوح أمة واحدة على ملة الكفر أمثال البهائم، فبعث الله نوحاً وغيره من النبيين. وقال قتادة وعكرمة: كان الناس من وقت آدم إلى مبعث نوح وكان بينهما عشرة قرون كلهم على شريعة واحدة من الحق والهدى, ثم اختلفوا في زمن نوح فبعث الله إليهم نوحاً، فكان أول نبي بعث، ثم بعث بعده النبيين.

وقال الكلبي هم أهل سفينة نوح كانوا مؤمنين ثم اختلفوا بعد وفاة نوح.

وروي عن ابن عباس قال: كان الناس على عهد إبراهيم عليه السلام أمة واحدة كفاراً كلهم فبعث الله إبراهيم وغيره من النبيين، وقيل: كان العرب على دين ابراهيم إلى أن غيره عمرو بن لحي. وروي عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: كان الناس حين عرضوا على آدم، وأخرجوا من ظهره وأقروا بالعبودية أمة واحدة مسلمين كلهم، ولم يكونوا أمة واحدة قط غير ذلك اليوم، ثم اختلفوا بعد آدم نظيره في سورة يونس: { { وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَٱخْتَلَفُواْ } [يونس:19] وجملتهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً والرسل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر، والمذكورون في القرآن باسم العلم ثمانية وعشرون نبياً { مُبَشِّرِينَ } بالثواب من آمَنَ وأطاع { وَمُنذِرِينَ } محذرين بالعقاب من كفر وعصى { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ } أي الكتب، تقديره وأنزل مع كل واحد منهم الكتاب { بِٱلْحَقِّ } بالعدل والصدق { لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ } قرأ أبو جعفر { لِيَحْكُمَ } بضم الياء وفتح الكاف هٰهنا وفي أول آل عمران وفي النور موضعين لأن الكتاب لا يحكم في الحقيقة إنما (الحكم) به، وقراءة العامة بفتح الياء وضم الكاف، أي ليحكم الكتاب ذكره على سعة الكلام كقوله تعالىٰ { { هَـٰذَا كِتَـٰبُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقِّ } [الجاثية: 29]. وقيل معناه ليحكم كل نبي بكتابة { فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ } أي في الكتاب { إِلاَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ } أي أعطوا الكتاب { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَـٰتُ } يعني أحكام التوراة والإِنجيل، قال الفراء: ولاختلافهم معنيان:

أحدهما كفر بعضهم بكتاب بعض قال الله تعالىٰ: { { وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ } [النساء: 150] والآخر تحريفهم كتاب الله قال الله: { { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } [النساء: 46] وقيل الآية راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه اختلف فيه أهل الكتاب { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَـٰتُ } صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم { بَغْيًا } وظلماً وحسداً { بَيْنَهُمْ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } أي لما اختلفوا فيه { مِنَ ٱلْحَقِّ بِإِذْنِهِ } بعلمه وارادته فيهم. قال ابن زيد في هذه الآية: اختلفوا في القبلة فمنهم من يصلي إلى المشرق ومنهم من يصلي إلى المغرب ومنهم من يصلي إلى بيت المقدس، فهدانا الله إلى الكعبة، واختلفوا في الصيام فهدانا الله لشهر رمضان، واختلفوا في الأيام، فأخذت اليهود السبت والنصارى الأحد فهدانا الله للجمعة واختلفوا في ابراهيم عليه السلام، فقالت اليهود كان يهودياً، وقالت النصارى كان نصرانياً فهدانا الله للحق من ذلك، واختلفوا في عيسى فجعلته اليهود لِفِرْيَةٍ وجعلته النصارى إلٰهاً وهدانا الله للحق فيه { وَٱللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }.