التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
٢٧٧
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَٰواْ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ
٢٧٨
فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَٰلِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ
٢٧٩
وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
٢٨٠
وَٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
٢٨١
-البقرة

معالم التنزيل

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }.

قوله تعالىٰ: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَا } قال عطاء وعكرمة نزلت في العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما وكانا قد أسلفا في التمر فلما حضر الجذاذ قال لهما صاحب التمر: إن أنتما أخذتما حقكما لا يبقى لي ما يكفي عيالي فهل لكما أن تأخذا النصف وتؤخرا النصف وأضعف لكما؟ ففعلا، فلما حل الأجل طلبا الزيادة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهما فأنزل الله تعالىٰ هذه الآية فسمعا وأطاعا وأخذا رؤوس أموالهما.

وقال السدي: نزلت في العباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير، ناس من ثقيف، فجاء الإِسلام ولهما أموال عظيمة في الربا فأنزل تعالىٰ هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في خطبته يوم عرفة: "ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوعة كلها، وأول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب فإنها موضوعة كلها" .

وقال مقاتل: نزلت في أربعة إخوة من ثقيف، مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة وهم بنو عمرو بن عمير بن عوف الثقفي، كانوا يداينون بني المغيرة بن عبد الله بن عميرة بن مخزوم وكانوا يربون فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف أسلم هؤلاء الإِخوة فطلبوا رباهم من بني المغيرة، فقال بنو المغيرة: والله ما نعطي الربا في الإِسلام وقد وضعه الله تعالىٰ عن المؤمنين، فاختصموا إلى عتاب بن أسيد وكان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة فكتب عتاب بن أسيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقصة الفريقين وكان ذلك مالا عظيماً فأنزل الله تعالىٰ: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ٱلرِّبَوٰاْ }.

{ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } أي إذا لم تذروا ما بقي من الربا { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } قرأ حمزة وعاصم برواية أبي بكر فآذنوا بالمد على وزن آمنوا، أي فأعلموا غيركم أنكم حرب لله ورسوله، وأصله من الأذن أي وقعوا في الآذان، وقرأ الآخرون فأذنوا مقصوراً بفتح الذال أي فاعلموا أنتم وأيقنوا بحرب من الله ورسوله، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: يقال لآكل الربا يوم القيامة: خذ سلاحك للحرب، قال أهل المعاني: حرب الله: النار وحرب رسول الله: السيف.

{ وَإِن تُبْتُمْ } إن تركتم استحلال الربا ورجعتم عنه { فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَٰلِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ } بطلب الزيادة { وَلاَ تُظْلَمُونَ } بالنقصان عن رأس المال فلما نزلت الآية قال بنو عمرو الثقفي ومن كان يعامل بالربا من غيرهم: بل نتوت إلى الله، فإنه لا يَدَانِ لنا بحرب الله ورسوله، فرضوا برأس المال، فشكا بنو المغيرة العسرةَ وقالوا: أخِّرونا إلى أن تدرك الغلات فأبوا أن يؤخروا فأنزل الله تعالىٰ { وإن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } يعني وإن كان الذي عليه الدين معسراً، رفع الكلام باسم كان ولم يأت لها بخبر وذلك جائز في النكرة، تقول، إن كان رجل صالح فأكرمه، وقيل «كان» بمعنى وقع، وحينئذ لا يحتاج إلى خبر، قرأ أبو جعفر عسرة بضم السين، { فَنَظِرَةٌ } أمر في صيغة الخبر تقديره فعليه نظرة { إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ } قرأ نافع ميسرة بضم السين وقرأ الآخرون بفتحها وقرأ مجاهد مَيْسُرة بضم السين مضافاً ومعناها اليسار والسعة { وَأَن تَصَدَّقُواْ } أي تتركوا رؤوس أموالكم إلى المعسر { خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } قرأ عاصم تصدقوا بتخفيف الصاد والآخرون بتشديدها.

أخبرنا الإِمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان، أخبرنا أبو العباس إسماعيل بن عبد الله الميكالي، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن موسى بن عبدان الحافظ، أخبرنا أبو طاهر أحمد بن عمرو بن السرح، أخبرنا ابن وهب عن جرير بن حازم عن أيوب عن يحيى ابن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أنه كان يطلب رجلاً بحق فاختبأ منه فقال: ما حملك على ذلك قال: العسرة، فاستحلفه على ذلك فحلف فدعا بصكِّه فأعطاه إياه وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أنظر معسراً أو وضع عنه أنجاه الله من كرب يوم القيامة" .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو منصور محمد سمعان أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرَّياني، أخبرنا حميد بن زنجويه، أخبرنا عبيد الله بن موسى، أخبرنا إسرائيل عن منصور عن ربعي عن أبي مسعود رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الملائكة لتَلَقَّتْ روحَ رجل كان قبلكم فقالوا هل عملت خيراً قط؟ قال: لا، قالوا: تذكر، قال: لا، إلا أني رجل كنت أداين الناس فكنت آمر فتياني أن ينظروا الموسر ويتجاوزوا عن المعسر، قال الله تبارك وتعالىٰ تجاوزوا عنه" .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الريَّاني، أخبرنا حميد بن زنجويه، أخبرنا أحمد بن عبد الله، أخبرنا زائدة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي عن أبي اليسر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" .

فصل في الدين وحسن قضائه وتشديد أمره

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا أحمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن اسماعيل أخبرنا أبو الوليد، أخبرنا شعبة، أخبرنا سلمة بن كُهيل قال: سمعت أبا سلمة بمنى يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن رجلاً تقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغلظ له فهمَّ به أصحابه فقال: دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً، واشتروا له بعيراً فأعطوه إياه، قالوا: لا نجد إلا أفضل من سِنِّه، قال: اشتروه فأعطوه إياه، فإن خيركم أحسنكم قضاء" .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد السرخسي، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَطْل الغني ظلم وإذا أُتْبعَ أحدكم على ملىء فليتبع" .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أخبرنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا إبراهيم بن سعيد بن إبراهيم عن أبيه عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نَفْس المؤمن معلَّقة بدينه حتى يُقْضَى عنه" .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد السرخسي، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبد الله بن أبي قتادة الأنصاري عن أبيه أنه قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر، يكفِّر اللَّهُ عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم فلما أدبر ناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أمر به فنودي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف قلت؟ فأعاد عليه قوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم إلا الدَّين كذلك قال جبريل" .

قوله تعالىٰ: { وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلى اللهِ } قرأ أهل البصرة بفتح التاء أي تصيرون إلى الله، وقرأ الآخرون بضم التاء وفتح الجيم، أي: تردون إلى الله تعالىٰ، { ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } قال ابن عباس رضي الله عنهما: هذه آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له جبريل عليه السلام ضعها على رأس مائتين وثمانين آية من سورة البقرة وعاش بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً وعشرين يوماً، وقال ابن جريج: تسع ليال، وقال سعيد بن جبير: سبع ليال، ومات يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول حين زاغت الشمس سنة إحدى عشرة من الهجرة.

قال الشعبي عن ابن عباس رضي الله عنهما: آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا.