التفاسير

< >
عرض

وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ
٨٦
وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ
٨٧
-الأنبياء

معالم التنزيل

{ وَأَدْخَلْنَـٰهُمْ فِى رَحْمَتِنَا }، يعني ما أنعم الله عليهم من النبوة وصيرهم إليه في الجنة من الثواب، { إِنَّهُم مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ }.

قوله عز وجل: { وَذَا ٱلنُّونِ }، أي: اذكر صاحب الحوت وهو يونس بن متى، { إِذ ذَّهَبَ مُغَـٰضِباً }، اختلفوا في معناه:

فقال الضحاك: مغاضباً لقومه، وهو رواية العوفي وغيره عن ابن عباس، قال: كان يونس وقومه يسكنون فلسطين فغزاهم ملك فسبى منهم تسعة أسباط ونصفاً وبقي سبطاً ونصف، فأوحى الله إلى شعياء النبي أنْ سرْ إلى حزقيل الملك، وقل له حتى يوجه نبياً قوياً فإني ألقي الرعب في قلوب أولئك حتى يرسلوا معه بني إسرائيل، فقال له الملك فمن ترى، وكان في مملكته خمسة من الأنبياء، فقال يونس: إنه قوي أمين فدعا الملك يونس فأمره أن يخرج، فقال له يونس: هل أمرك الله بإخراجي؟ قال: لا، قال: فهل سماني لك؟ قال: لا، قال: فهاهنا غيري أنبياء أقوياء، فألحوا عليه فخرج من بينهم مغاضباً للنبي وللملك، ولقومه فأتى بحر الروم فركبه.

وقال عروة بن الزبير وسعيد بن جبير وجماعة: ذهب عن قومه مغاضباً لربه إذ كشف عن قومه العذاب بعدما أوعدهم، وكره أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الخلف فيما أوعدهم، واستحيا منهم، ولم يعلم السبب الذي به رفع العذاب، وكان غضبه أنفة من ظهور خلف وعده، وأنه يسمى كذاباً لا كراهية لحكم الله تعالى.

وفي بعض الأخبار أنه كان من عادة قومه أن يقتلوا من جربوا عليه الكذب فخشي أن يقتلوه لما لم يأتهم العذاب للميعاد، فغضب، والمغاضبة هاهنا من كالمفاعلة التي تكون من واحد، كالمسافرة والمعاقبة، فمعنى قوله مغاضباً أي غضبان.

وقال الحسن: إنما غضب ربَّه عزّ وجلّ من أجل أنه أمره بالمسير إلى قومه لينذرهم بأسه ويدعوهم إليه، فسأل ربّه أن ينظره ليتأهب للشخوص إليهم، فقيل له إن الأمر أسرع من ذلك حتى سأل أن ينظر إلى أن يأخذ نعلاً يلبسها فلم ينظر، وكان في خلقه ضيق فذهب مغاضباً.

وعن ابن عباس، قال: أتى جبريل يونس فقال: انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم، قال: ألتمس دابة قال: الأمر أعجل من ذلك، فغضب فانطلق إلى السفينة.

وقال وهب بن منبه: إن يونس بن متى كان عبداً صالحاً وكان في خلقه ضيق، فلما حمل عليه أثقال النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل فقذفها من يديه، وخرج هارباً منها، فلذلك أخرجه الله من أُولي العزم من الرسل وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: { فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ } [الأحقاف: 35]، وقال: { وَلاَ تَكُن كَصَـٰحِبِ ٱلْحُوتِ } [القلم: 48].

قوله عز وجل: { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ }، أي لن نقضي عليه بالعقوبة، قاله مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي، وهو رواية العوفي عن ابن عباس يقال: قدَّر الله الشيءَ تقديراً وقَدَر يَقْدُر قدْراً بمعنى واحد، ومنه قوله: { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ } [الواقعة: 60] في قراءة من قرأها بالتخفيف، دليل هذا التأويل قراءة عمر بن عبد العزيز والزهري: { فظنّ أن لن نقدِّرعليه }، بالتشديد، وقال عطاء وكثير من العلماء: معناه فظن أن لن نضيق عليه الحبس، من قوله تعالى: { ٱللَّهُ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِر } [الرعد: 26]، أي يضيق. وقال ابن زيد: هو استفهام معناه: أفظن أنه يُعجزُ ربَّه، فلا يقدر عليه. وقرأ يعقوب يُقدر بضم الياء على المجهول خفيف.

وعن الحسن قال: بلغني أن يونس لما أصاب الذنب انطلق مغاضباً لربه واستزله الشيطان حتى ظن لن نقدر عليه، وكان له سلف وعبادة فأبى الله أن يدعه للشيطان، فقذفه في بطن الحوت فمكث فيه أربعين من بين يوم وليلة. وقال عطاء: سبعة أيام وقيل: ثلاثة أيام. وقيل: إن الحوت ذهب به مسيرة ستة آلاف سنة. وقيل: بلغ به تخوم الأرض السابعة فتاب إلى ربه تعالى في بطن الحوت، وراجع نفسه فقال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، حين عصيتك وما صنعت من شيء فلن أعبد غيرك فأخرجه الله من بطن الحوت برحمته، والتأويلات المتقدمة أولى بحال الأنبياء أنه ذهب مغاضباً لقومه أو للملك، { فَنَادَىٰ فِى ٱلظُّلُمَـٰتِ }، أي ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت، { أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ }.

وروي عن أبي هريرة مرفوعاً: "أوحى الله إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحماً ولا تكسر له عظماً، فأخذه ثم هوى به إلى مسكنه في البحر، فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حساً فقال في نفسه ما هذا؟ فأوحى الله إليه: أن هذا تسبيح دواب البحر، قال: فسبح وهو في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه، فقالوا: يا ربنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة، وفي رواية: صوتاً معروفاً من مكان مجهول، فقال: ذاك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت، فقالوا العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح؟ قال: نعم فشفعوا له" ، عند ذلك فأمر الحوت فقذفه في الساحل، كما قال الله تعالى: { { فَنَبَذْنَـٰهُ بِٱلْعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٌ } [الصافات: 145].