التفاسير

< >
عرض

أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ ٱلَّذِي يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ
٢٥
ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ
٢٦
قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ
٢٧
ٱذْهَب بِّكِتَابِي هَـٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَٱنْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ
٢٨
قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ إِنِّيۤ أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ
٢٩
إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ
٣٠
أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ
٣١
قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَفْتُونِي فِيۤ أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ
٣٢
قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَٱلأَمْرُ إِلَيْكِ فَٱنظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ
٣٣
قَالَتْ إِنَّ ٱلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوۤاْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً وَكَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ
٣٤
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ ٱلْمُرْسَلُونَ
٣٥
فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ ٱللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ
٣٦
ٱرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ
٣٧
قَالَ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ
٣٨
-النمل

معالم التنزيل

{ أَلاَّ يَسْجُدُواْ }، قرأ أبو جعفر والكسائي: «أَلاَ يسجدوا» بالتخفيف، وإذا وقفوا يقفون "ألاَ يا" ألا يأثم يبدئون: "اسجدوا"، على معنى: ألاَ يا هؤلاء اسجدوا، وجعلوه أمراً من عند الله مستأنفاً، وحذفوا هؤلاء اكتفاءً بدلالة "يا" عليها، وذكر بعضهم سماعاً من العرب: ألاَ يا ارحمونا، يريدون ألاَ يا قوم، وقال الأخطل:

أَلاَ يا أسْلَمِي يا هِنْدَ بَنِي بَكْرِوإنْ كانَ حَيَّانَا عِدَاً آخِرَ الدَّهْرِ

يريد: ألاَ يا هند اسلمي، وعلى هذا يكون قوله «ألاَ» كلاماً معترضاً من غير القصة، إما من الهدهد، وإما من سليمان. قال أبو عبيدة: هذا أمر من الله مستأنف يعني: يا أيها الناس اسجدوا.

وقرأ الآخرون: «ألاَّ يسجدوا» بالتشديد، بمعنى: وزين لهم الشيطان أعمالهم لئلا يسجدوا، { للَّهِ ٱلَّذِى يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ }، أي الخفي المخبّأ، { فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ }، أي: ما خبأت. قال أكثر المفسرين: خبء السماء: المطر، وخبء الأرض: النبات.

وفي قراءة عبد الله: «يخرج الخبء من السموات والأرض»، و"من" و"في" يتعاقبان، تقول العرب: لأستخرجن العلم فيكم، يريد منكم.

وقيل: معنى "الخبء" الغيب، يريد: يعلم غيب السموات والأرض.

{ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ }، قرأ الكسائي، وحفص، عن عاصم: بالتاء فيهما، لأن أول الآية خطاب على قراءة الكسائي بتخفيف ألاَ، وقرأ الآخرون بالياء.

{ ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ }، أي: هو المستحقُّ للعبادة والسجود لا غيره. وعرش ملكة سبأ وإن كان عظيماً فهو صغير حقير في جنب عرشه عزّ وجلّ، تم هاهنا كلام الهدهد، فلما فرغ الهدهد من كلامه.

{ قَالَ }، سليمان للهدهد: { سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ } فيما أخبرت، { أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ }؟ فدلَّهم الهدهد على الماء، فاحتفروا الركايا، وروى الناس والدواب، ثم كتب سليمان كتاباً: من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ: بسم الله الرحمن الرحيم، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد فلا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين. قال ابن جريج لم يزد سليمان على ما قص الله في كتابه. وقال قتادة: وكذلك كل الأنبياء كانت تكتب جُمَلاً لا يطيلون ولا يكثرون. فلما كتب الكتاب طبعه بالمسك وختمه بخاتمه. فقال للهدهد:

{ ٱذْهَب بِّكِتَابِى هَـٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ }، قرأ أبو عمرو، وعاصم، وحمزة: ساكنة الهاء، ويختلسها أبو جعفر، ويعقوب وقالون كسراً، [والآخرون بالإِشباع كسراً]، { ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ }، تَنحَ عنهم فكنْ قريباً منهم، { فَٱنْظُرْ مَاذَا يَرْجِعون }، يردُّون من الجواب. وقال ابن زيد: في الآية تقديم وتأخير مجازها: اذهبْ بكتابي هذا فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون، ثم تول عنهم، أي: انصرف إليَّ، فأخذ الهدهد الكتاب فأتى به إلى بلقيس، وكانت بأرض يقال لها: "مَأْرِب" من صنعاء على ثلاثة أيام، فوافاها في قصرها وقد غلّقت الأبواب، وكانت إذا رقدت غلّقت الأبواب وأخذت المفاتيح فوضعتها تحت رأسها، فأتاها الهدهد وهي نائمة مستلقية على قفاها، فألقى الكتاب على نحرها، هذا قول قتادة.

وقال مقاتل: حمل الهدهد الكتاب بمنقاره حتى وقف على رأس المرأة وحولها القادة والجنود فرفرف ساعة والناس ينظرون إليه، حتى رفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حِجْرها.

وقال ابن منبه، وابن زيد: كانت لها كوة مستقبلة الشمس تقع الشمس فيها حين تطلع، فإذا نظرت إليها سجدت لها، فجاء الهدهد الكوة فسدها بجناحه فارتفعت الشمس ولم تعلم، فلما استبطأت الشمس قامت تنظر، فرمى بالصحيفة إليها فأخذت بلقيس الكتاب، وكانت قارئة، فلما رأت الخاتم أُرعدت وخضعت لأن ملك سليمان كان في خاتمه، وعرفت أن الذي أرسل الكتاب إليها أعظم مُلْكاً منها، فقرأت الكتاب، وتأخر الهدهد غير بعيد، فجاءت حتى قعدت على سرير مملكتها وجمعت الملأَ من قومها، وهم اثنا عشر ألف قائد مع كل قائد مائة ألف مقاتل. وعن ابن عباس قال: كان مع بلقيس مائة ألف، قَيْل، مع كل قيْل مائة ألف، والقَيْل الملك دون الملك الأعظم، وقال قتادة ومقاتل: كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً كل رجل منهم على عشرة آلاف، قال: فجاؤوا وأخذوا مجالسهم.

{ قَالَتْ }، لهم بلقيس: { يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ }، وهم أشراف الناس وكبراؤهم { إِنِّيۤ أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ }، قال عطاء والضحاك: سمته كريماً لأنه كان مختوماً. ورى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كرامة الكتاب ختمه" ، وقال قتادة ومقاتل: "كتاب كريم" أي: حسن، وهو اختيار الزجاج، وقال: حسنٌ ما فيه, وروي عن ابن عباس: "كريم"، أي: شريف لشرف صاحبه، وقيل: سمته كريماً لأنه كان مصدراً ببسم الله الرحمن الرحيم، ثم بينت ممَّن الكتاب فقالت:

{ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ }، وبينت المكتوب فقالت، { وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }.

{ أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَىَّ }، قال ابن عباس: أي: لا تتكبروا عليّ. وقيل: لا تتعظموا ولا تترفعوا عليّ. وقيل: معناه: لا تمتنعوا من الإِجابة، فإنَّ ترك الإِجابة من العلو والتكبر، { وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ }، مؤمنين طائعين. قيل هو من الإِسلام، وقيل: هو من الاستسلام.

{ قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلاَُ أَفْتُونِى فِىۤ أَمْرِى }، أشيروا عليّ فيما عرض لي، وأجيبوني فيما أشاوركم فيه، { مَا كُنتُ قَاطِعَةً }، قاضيةً وفاصلةً، { أَمْراً حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ }، أي تحضرون.

{ قَالُواْ }، مجيبين لها، { نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ } في القتال، { وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ }، عند الحرب، قال مقاتل: أرادوا بالقوة كثرةَ العدد، وبالبأس الشديد الشجاعةَ، وهذا تعريض منهم بالقتال إنْ أمرتهم بذلك ثم قالوا: { وَٱلأَمْرُ إِلَيْكِ }، أيتها الملكة في القتال وتركه، { فَٱنظُرِى }، من الرأي، { مَاذَا تأْمرين }، تجدينا لأمرك مطيعين.

{ قَالَتْ }، بلقيس مجيبة لهم عن التعريض للقتال: { إِنَّ ٱلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً } عنوة، { أَفْسَدُوهَا }، خرَّبوها، { وَجَعَلُوۤاْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً }، أي: أهانوا أشرافها وكبراءها، كي يستقيم لهم الأمر، تحذرهم مسير سليمان إليهم ودخوله بلادهم، وتناهى الخبر عنها هاهنا، فصدّق الله قولها فقال: { وَكَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ }، أي: كما قالت هي يفعلون.

ثم قالت: { وَإِنِّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ }، والهدية هي: العطية على طريق الملاطفة، وذلك أن بلقيس كانت امرأة لبيبة قد سيست وساست، فقالت للملأ من قومها: إني مرسلة إليهم، أي إلى سليمان وقومه، بهدية أُصانِعُه بها عن ملكي وأختبره بها أَملِكٌ هو أم نبي؟ فإن يكن ملكاً قبل الهدية وانصرف، وإن كان نبياً لم يقبل الهدية ولم يُرْضِه منّا إلاّ أن نتبعه على دينه، فذلك قوله تعالى: { فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ ٱلْمُرْسَلُونَ }، فأهدت إليه وصفاء ووصائف، قال ابن عباس: ألبستهم لباساً واحداً كي لا يُعْرف الذكر من الأنثى. وقال مجاهد: ألبس الغلمان لباس الجواري وألبس الجواري لباس الغلمان.

واختلفوا في عددهم، فقال ابن عباس: مائة وصيف ومائة وصيفة، وقال مجاهد ومقاتل: مائتا غلام ومائتا جارية.

وقال قتادة، وسعيد بن جبير: أرسلت إليه بلبنة من ذهب في حرير وديباج.

وقال ثابت البناني: أهدت إليه صفائح من الذهب في أوعية الديباج. وقيل: كانت أربع لبنات من ذهب.

وقال وهب وغيره: عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية، فألبست الغلمان لباسَ الجواري، وجعلت في سواعدهم أساور من ذهب، وفي أعناقهم أطواقاً من ذهب وفي آذانهم أقراطاً وشنوفاً مرصَّعات بأنواع الجواهر، وألبست الجواري لباس الغلمان؛ الأقبيةَ والمناطق، وحملت الجواري على خمسمائة رمكة، والغلمان على خمسمائة برذون، على كل فرس لجام من ذهب مرصع بالجواهر وغواشيها من الديباج الملون، وبعثت إليه خمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة لبنة من فضة، وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت المرتفع، وأرسلت إليه المسك والعنبر والعود الألنجوج، وعمدت إلى حقة فجعلت فيها درة ثمينة غير مثقوبة وخرزة جزعية مثقوبة معوجة الثقب، ودعت رجلاً من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو، وضمت إليه، رجالاً من قومها أصحاب رأي وعقل، وكتبت معه كتاباً بنسخة الهدية، وقالت فيه: إن كنتَ نبياً فميزْ لي بيّنِ الوصائف والوصفاء، وأخبر بما في الحقة قبل أن تفتحها، واثقب الدر ثقباً مستوياً، وأدخل خيطاً في الخرزة المثقوبة من غير علاج إنس ولا جنّ.

وأمرت بلقيس الغلمان فقالت: إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام تأنيث وتخنيث يشبه كلام النساء، وأمرت الجواري أن يكلمنه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال.

ثم قالت للرسول: أنظر إلى الرجل إذا دخلت عليه فإن نظر إليك نظر غضب فاعلم أنه ملك ولا يهولنك منظره، فإنّا أعزّ منه، وإن رأيت الرجل بشاشاً لطيفاً فاعلم أنه نبي مرسل فتفهَّمْ قوله، ورد الجواب.

فانطلق الرسول بالهدايا، وأقبل الهدد مسرعاً إلى سليمان فأخبره الخبر كله، فأمر سليمان الجنَّ أن يضربوا لبنات الذهب ولبنات الفضة ففعلوا، ثم أمرهم أن يبسطوا من موضعه الذي هو فيه إلى تسعة فراسخ ميداناً واحداً بلبنات الذهب والفضة، وأن يجعلوا حول الميدان حائطاً، شُرفها من الذهب والفضة، ثم قال: أي الدوابِّ أحسن مما رأيتم في البر والبحر، قالوا: يا نبي الله إنا رأينا دواباً في بحر كذا وكذا منقطعة مختلفة ألوانها لها أجنحة وأعراف ونواصٍ، فقال: عليّ بها الساعة، فأَتوا بها، فقال شدُّوها عن يمين الميدان وعن يساره على لبنات الذهب والفضة، وألقُوا لها علوفَتها فيها، ثم قال للجن: عليّ بأولادكم فاجتمع خلق كثير، فأقامهم عن يمين الميدان ويساره، ثم قعد سليمان في مجلسه على سريره، ووضع له أربعة آلاف كرسي عن يمينه ومثلها عن يساره، وأمر الشياطين أن يصطفوا صفوفاً فراسخ، وأمر الإِنس فاصطفوا فراسخ وأمر الوحوش والسباع والهوام والطير، فاصطفوا فراسخ عن يمينه وعن يساره. فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان ورأوا الدواب التي لم ترَ أعينُهم مثلها تروث على لَبِنِ الذهب والفضة، تقاصرت أنفسهم ورموا بما معهم من الهدايا، وفي بعض الروايات أن سليمان لما أمر بفرش الميدان بلبنات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعاً على قدر موضع اللبنات التي معهم، فلما رأى الرسل موضع اللبنات خالياً وكل الأرض مفروشة خافوا أن يتهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك المكان، فلما رأوا الشياطين نظروا إلى منظر عجيب ففزعوا، فقالت لهم الشياطين: جُوزوا فلا بأس عليكم، فكانوا يمرون على كردوس كردوس من الجن والإِنس والطير والهوام والسباع والوحوش، حتى وقفوا بين يدي سليمان، فنظر إليهم سليمان نظراً حسناً بوجه طلق، وقال: ما وراءكم؟ فأخبره رئيس القوم بما جاؤوا له، وأعطاه كتاب الملكة، فنظر فيه، ثم قال: أين الحقة، فأُتى بها فحركها، وجاء جبريل فأخبره بما في الحقة، فقال: إن فيها درة ثمينة غير مثقوبة، وجزعة مثقوبة معوجة الثقب، فقال الرسول: صدقتَ فاثقب الدرة، وأدخل الخيط في الخرزة، فقال سليمان: من لي بثقبها فسأل سليمان الإنس ثم الجن، فلم يكن عندهم علم ذلك، ثم سأل الشياطين، فقالوا: نرسل إلى الأرضة فجاءت الأرضة فأخذت شعرة في فيها فدخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر فقال لها سليمان ما حاجتك؟ فقالت: تصيّر رزقي في الشجرة، فقال لك ذلك.

وروي أنها جاءت دودة تكون في الصفصاف فقالت: أنا أدخل الخيط في الثقب على أن يكون رزقي في الصفصاف، فجعل لها ذلك، فأخذت الخيط بفيها ودخلت الثقب وخرجت من الجانب الآخر.

ثم قال: من لهذه الخرزة فيسلكها في الخيط؟ فقالت دودة بيضاء أنا لها يا رسول الله فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر، فقال سليمان: ما حاجتك؟ فقالت: تجعل رزقي في الفواكه، قال: لك ذلك، ثم ميّز بين الجواري والغلمان، بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم، فجعلت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ثم تجعله على اليد الأخرى ثم تضرب به الوجه، والغلام كما يأخذه من الآنية فيضرب به وجهه، وكانت الجارية تصب الماء على بطن ساعدها والغلام على ظهر الساعد، وكانت الجارية تصب الماء صباً وكان الغلام يحدر الماء على يديه حدراً، فميّز بينهم بذلك، ثم ردّ سليمان الهدية, كما قال الله تعالى:

{ فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ }، قرأ حمزة، ويعقوب: { أتمدوني } بنون واحدة مشددة وإثبات الياء، وقرأ الآخرون: بنونين خفيفتين، ويثبت الياء أهل الحجاز والبصرة، والآخرون يحذفونها، { فَمَآ ءَاتَـٰنِى ٱللَّه }، أعطاني الله من النبوة والدين والحكمة والملك، { خَيْرٌ } أفضل، { مِّمَّآ ءَاتَـٰكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ }، لأنكم أهل مفاخرة في الدنيا ومكاثرة بها، تفرحون بإهداء بعضكم لبعض، فأما أنا فلا أفرح بها، وليست الدنيا من حاجتي، لأن الله تعالى قد مكنني فيها وأعطاني منها ما لم يعط أحداً، ومع ذلك أكرمني بالدين والنبوة، ثم قال للمنذر بن عمرو أمير الوفد.

{ ٱرْجِعْ إِلَيْهِمْ }، بالهدية، { فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ }، لا طاقة لهم، { بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ }، أي: من أرضهم وبلادهم وهي سبأ، { أَذِلَّةً وَهُمْ صَـٰغِرُونَ }، ذليلون إن لم يأتوني مسلمين.

قال وهب وغيره من أهل الكتب: فلما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان قالت: قد عرفت ـ والله ـ ما هذا بملك وما لنا به طاقة، فبعثت إلى سليمان إني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك، ثم أمرت بعرشها فجعل في آخر سبعة أبيات بعضها في بعض في آخر قصر من سبعة قصور لها، ثم أغلقت دونه الأبواب ووكلت به حراساً يحفظونه، ثم قالت لمن خلفت على سلطانها: احتفظ بما قِبَلِك وسرير ملكي، لا يخلص إليه أحد ولا يرينَّه حتى آتيك، ثم أمرت منادياً ينادي في أهل مملكتها يؤذنهم بالرحيل، وشخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف قَيْل: من ملوك اليمن، تحت يد كلِّ قيل ألوفٌ كثيرة.

قال ابن عباس: وكان سليمان رجلاً مهيباً لا يُبْتَدَأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه، فخرج يوماً فجلس على سرير ملكه، فرأى وهجاً قريباً منه، فقال: ما هذا؟ قالوا: بلقيس وقد نزلت منا بهذا المكان، وكان على مسيرة فرسخ من سليمان، قال ابن عباس: وكان بين الكوفة والحيرة قدر فرسخ، فأقبل سليمان حينئذٍ على جنوده.

{ قَالَ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلاَُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ }، أي: مؤمنين، وقال ابن عباس: طائعين.

واختلفوا في السبب الذي لأجله أمر سليمان بإحضار عرشها، فقال أكثرهم: لأن سليمان علم أنها إن أسلمت يحرم عليه مالها فأراد أن يأخذ سريرها قبل أن يحرم عليه أخذه بإسلامها.

وقيل: ليُريها قدرة الله وعظيم سلطانه في معجزة يأتي بها في عرشها.

وقال قتادة: لأنه أعجبته صفته لما وصفه الهدهد، فأحب أن يراه.

قال ابن زيد: أراد أن يأمر بتنكيره وتغييره ليختبر بذلك عقلها.