التفاسير

< >
عرض

وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ
١٢٦
لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ
١٢٧
لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ
١٢٨
-آل عمران

معالم التنزيل

قوله تعالى: { وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ } يعني هذا الوعد والمدد، { إِلاَّ بُشْرَىٰ لَكُمْ } أي: بشارة لتستبشروا به { وَلِتَطْمَئِنَّ } ولتسكن { قُلُوبُكُمْ بِهِ } فلا تجزعوا من كثرة عدوكم وقلة عددكم، { وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } يعني: لا تحيلوا بالنصر على الملائكة والجند، فإن النصر من الله تعالى فاستعينوا به وتوكلوا عليه، لأن العزَّ والحُكم له.

قوله تعالى: { لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ }، يقول لقد نصركم الله ببدر ليقطع طرفاً أي: لكي يهلك طائفة من الذين كفروا، وقال السدي: معناه ليهدم ركناً من أركان الشرك بالقتل والأسر، فقُتل من قادتهم وسادتهم يوم بدر سبعون وأُسر سبعون، ومَنْ حَمَلََ الآيةَ على حرب أُحد فقد قُتل منهم يومئذ ستة عشر وكان النصر للمسلمين حتى خالفوا أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم فانقلب عليهم، { أَوْ يَكْبِتَهُمْ } قال الكلبي: يهزمهم، وقال يمان: يصرعهم لوجوههم، قال السدي: يلعنهم، وقال أبو عُبيدة: يهلكهم، وقيل: يحزنهم، والمكبوت: الحزين، وقيل أصله: يكبدهم أي: يصيب الحزن والغيظ أكبادهم، والتاء والدال يتعاقبان كما يقال سَبَتَ رأسَهَ وسَبَدهَ: إذا حلقه، وقيل: يكبتهم بالخيبة، { فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ }، لم ينالوا شيئاً مما كانوا يرجونه من الظفر بكم.

قوله تعالى: { لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ } الآية، اختلفوا في سبب نزول هذه الآية.

فقال قوم: نزلت في أهل بئر معونة، وهم سبعون رجلاً من القراء، بعثهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى بئر معونة في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أُحد ليُعلِّموا الناس القرآن والعلمَ، أميرهم المنذر بن عمرو، فقتلهم عامر بن الطفيل، فوَجَدَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ذلك وَجْداً شديداً، وقنت شهراً في الصلوات كلها يدعو على جماعة من تلك القبائل باللّعن والسّنين، فنزلت: { لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ }.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أنا محمد ابن إسماعيل أخبرنا حبان بن موسى أخبرنا عبد الله، يعني ابن المبارك، أخبرنا معمر عن الزهري حدثني سالم عن أبيه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: "اللّهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً، بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد" ، فأنزل الله تعالى: { لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ }.

وقال قوم: نزلت يوم أُحد.

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغافر بن محمد أخبرنا محمد ابن عيسى الجلودي أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان أخبرنا مسلم بن الحجاج أخبرنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي الله عنهما:

أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كُسرت رباعيتُه يوم أُحد وشُجَّ في رأسه، فجعل يسلتُ الدم عنه ويقول: "كيفَ يُفلحُ قومٌ شجوا [رأس] نبيهم وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى [الله عز وجل]" ، فأنزل الله تعالى: «ليس لك من الأمر شيء».

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم أُحد: "اللهم العن أبا سفيان، الله العن الحارث بن هشام، اللهم العن صفوان بن أمية" ، فنزلت: «ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم» فأسلموا وحَسُن إسلامُهم.

وقال سعيد بن المسيب ومحمد بن إسحاق لمّا رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمون يوم أُحد ما بأصحابهم من جدع الآذان والأنوف وقطع المذاكير، قالوا: لئن أدَالَنا اللهُ تعالى منهم لنفعلن بهم مثل ما فعلوا، ولنمثلنّ بهم مثلة لم يمثلها أحدٌ من العرب بأحد، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقيل: أراد النبي صلّى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم بالاستئصال، فنزلت هذه الآية، وذلك لعلمه فيهم بأن كثيراً منهم يسلمون. فقوله تعالى: { لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ } أي: ليس إليك، فاللام بمعنى «إلى» كقوله تعالى: { رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ } [آل عمران: 193]، أي: إلى الإِيمان: قوله تعالى: { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ }، (قال بعضهم: معناه حتى يتوب عليهم)، أو: إلى أن يتوب عليهم، وقيل: هو نسق على قوله «ليقطعَ طَرفاً»، وقوله: «ليس لك من الأمر شيء» اعتراض بين نظم الكلام ونظم الآية: ليقطعَ طرفاً من الذين كفروا أو يكبتَهم أو يتوبَ عليهم أو يعذبَهم فإنهم ظالمون، ليس لك من الأمر شيء، بل الأمرُ أمري في ذلك كله.