التفاسير

< >
عرض

وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ وَمِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ
١٢
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ
١٣
-سبأ

معالم التنزيل

{ وَلِسُلَيْمَـٰنَ ٱلرِّيحَ } أي: وسخرنا لسليمان الريح، وقرأ أبو بكر عن عاصم: الريح بالرفع أي: له تسخير الريح، { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ }, أي: سير غُدوِّ تلك الريح المسخرة له مسيرة شهر، وسير رواحها مسيرة شهر، وكانت تسير به في يوم واحد مسيرة شهرين.

قال الحسن: كان يغدو من دمشق فيقيل بإصطخر وبينهما مسيرة شهر، ثم يروح من اصطخر فيبيت بكابل وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع.

وقيل: إنه كان يتغدى بالري ويتعشى بسمرقند.

{ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ }، أي: أذَبْنَا له عين النحاس، و"القِطْرُ": النحاس.

قال أهل التفسير: أجريت له عين النحاس ثلاثة أيام بلياليهن كجري الماء، وكان بأرض اليمن، وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليمان.

{ وَمِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ }، بأمر ربه، قال ابن عباس: سخر الله الجن لسليمان وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به، { وَمَن يَزِغْ }، أي: يعدل، { مِنْهُمْ }، من الجن، { عَنْ أَمْرِنَا }، الذي أمرنا به من طاعة سليمان، { نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ }، في الآخرة، وقال بعضهم: في الدنيا وذلك أن الله عزّ وجلّ وكّل بهم ملكاً بيده سوط من نار فمن زاغ منهم عن أمر سليمان ضربه ضربة أحرقته.

{ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَـٰرِيبَ }، أي: مساجد، والأبنية المرتفعة وكان مما عملوا له بيت المقدس ابتدأه داود ورفعه قدر قامة رجل، فأوحى الله إليه إني لم أقض ذلك على يدك ولكن ابن لك أملّكه بعدك اسمه سليمان أقضي تمامه على يده، فلما توفاه الله استخلف سليمان فأحب إتمام بناء بيت المقدس، فجمع الجن والشياطين وقسم عليهم الأعمال فخصّ كل طائفة منهم بعمل يستخلصها له، فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والمها الأبيض من معادنه، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفاح، وجعلها اثني عشر ربضاً، وأنزل كل ربض منها سبطَاً من الأسباط، وكانوا اثني عشر سبطاً، فلما فرغ من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد فوجه الشياطين فرقاً فرقاً يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها والدر الصافي من البحر، وفرقاً يقلعون الجواهر والحجارة من أماكنها، وفرقاً يأتونه بالمسك والعنبر وسائر الطيب من أماكنها، فأتى من ذلك بشيء لا يحصيه إلا الله عزّ وجلّ، ثم أحضر الصناعيين وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة وتصييرها ألواحاً وإصلاح تلك الجواهر وثقب اليواقيت واللآلىء، فبنى المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر وعمده بأساطين المها الصافي وسقفه بألواح الجواهر الثمينة وفصص سقوفه وحيطانه باللآلىء واليواقيت وسائر الجواهر، وبسط أرضه بألواح الفيروزج فلم يكن يومئذ في الأرض بيت أبهى ولا أنور من ذلك المسجد، وكان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر، فلما فرغ منه جمع إليه أحبار بني إسرائيل فأعلمهم أنه بناه لله عزّ وجلّ، وأن كل شيء فيه خالص لله، واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيداً.

وروى عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلاثاً فأعطاه اثنين، وأنا أرجو أن يكون أعطاه الثالثة، سأله حكماً يصادف حكمه، فأعطاه إيّاه، وسأله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فأعطاه إيّاه وسأله أن لا يأتي هذا البيت أحد يصلي فيه ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه ذلك" .

قالوا: فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان حتى غزاه بختنصر فخرب المدينة وهدمها ونقض المسجد، وأخذ ما كان في سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر، فحمله إلى دار مملكته من أرض العراق، وبنى الشياطين لسليمان باليمن حصوناً كثيرة عجيبة من الصخر.

قوله عزّ وجلّ: { وَتَمَـٰثِيلَ }، أي: كانوا يعملون له تماثيل، أي: صوراً من نحاس وصُفْر وشبة وزجاج ورخام. وقيل: كانوا يصورون السباع والطيور. وقيل: كانوا يتخذون صور الملائكة والأنبياء والصالحين في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة، ولعلها كانت مباحة في شريعتهم، كما أن عيسى كان يتخذ صوراً من الطين فينفخ فيها فتكون طيراً بإذن الله.

{ وَجِفَانٍ }، أي: قصاع واحدتها جفنة، { كَـٱلْجَوَابِ }، كالحياض التي يجبى فيها الماء، أي: يجمع، واحدتها جابية، يقال: كان يقعد على الجفة الواحدة ألف رجل يأكلون منها { وَقُدُورٍ رَٰسِيَـٰتٍ } ثابتات لها قوائم لا يحركن عن أماكنهن لعظمهن، ولا ينزلن ولا يعطَّلن، وكان يصعد عليها بالسلالم، وكانت باليمن.

{ ٱعْمَلُوۤاْ ءَالَ دَاوُودَ شُكْراً }، أي: وقلنا اعملوا آل داود شكراً، مجازه: اعملوا يا آل داود بطاعة الله شكراً له على نعمه.

{ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ ٱلشَّكُورُ }، أي العامل بطاعتي شكراً لنعمتي.

قيل: المراد من "آل داود" هو داود نفسه. وقيل: داود وسليمان وأهل بيته.

وقال جعفر بن سليمان: سمعت ثابتاً يقول: كان داود نبي عليه السلام قد جزّأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم يكن تأتي ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي.