التفاسير

< >
عرض

قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِيۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ
٢٤

معالم التنزيل

{ قَالَ }، داود: { لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ }، أي: بسؤاله نعجتك ليضمها إلى نعاجه.

فإن قيل: كيف قال لقد ظلمك ولم يكن سمع قول صاحبه؟.

قيل: معناه إن كان الأمر كما تقول فقد ظلمك، وقيل: قال ذلك بعد اعتراف صاحبه بما يقول.

{ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ }، الشركاء، { لَيَبْغِىۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ }، يظلم بعضهم بعضاً، { إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ }، فإنهم لا يظلمون أحداً. { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ }، أي: قليلٌ هم, و"ما" صلة يعني: الصالحين الذين لا يظلمون قليل.

قالوا: فلما قضى بينهما داود نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك وصعد إلى السماء، فعلم داود أن الله تعالى قد ابتلاه، وذلك قوله:

{ وَظَنَّ دَاوُودُ }، أيقن وعلم، { أَنَّمَا فَتَنَّاهُ }، إنما ابتليناه.

وقال السدي بإسناده: أن أحدهما لما قال: { هَذَآ أَخِى } الآية، قال داود للآخر: ما تقول؟ فقال: إن لي تسعاً وتسعين نعجة ولأخي نعجة واحدة وأنا أريد أن آخذها منه فأكمل نعاجي مائة، قال وهو كاره، إذاً لا ندعك وإن رُمتَ ذلك ضربت منك هذا وهذا وهذا، يعني: طرف الأنف وأصله والجبهة، فقال: يا داود أنت أحق بذلك حيث لم يكن لأوريا إلاَّ امرأة واحدة، ولك تسع وتسعون امرأة، فلم تزل تعرضه للقتل حتى قتل وتزوجت امرأته، فنظر داود فلم يرَ أحداً فعرف ما وقع فيه.

وقال القائلون بتنزيه الأنبياء في هذه القصة: إن ذنب داود إنما كان أنه تمنى أن تكون امرأة أوريا حلالاً له، فاتفق غزو أوريا وتقدمه في الحرب وهلاكه، فلما بلغ قتله داود لم يجزع عليه كما جزع على غيره من جنده إذا هلك، ثم تزوج امرأته، فعاتبه الله على ذلك، لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظمية عند الله.

وقيل: كان ذنب داود أن أوريا كان خطب تلك المرأة ووطن نفسه عليها، فلما غاب في غزاته خطبها داود فتزوجت منه لجلالته، فاغتمَّ لذلك أوريا، فعاتبه الله على ذلك حيث لم يترك هذه الواحدة لخاطبها وعنده تسع وتسعون امرأة.

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي قال: ومما يصدق ما ذكرنا عن المتقدمين ما أخبرني عقيل بن محمد بن أحمد الفقيه أن المعافى بن زكريا القاضي ببغداد أخبره عن محمد بن جرير الطبري، قال: حدثني يونس بن عبد الأعلى الصيرفي، أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن لهيعة، عن أبي صخر، عن يزيد الرقاشي، عن أنس ابن مالك رضي الله عنه سمعه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن داود النبي عليه السلام حين نظر إلى المرأة فهمَّ أن يُجمِع على بني إسرائيل وأوصى صاحب البعث، فقال: إذا حضر العدو فقرّبْ فلاناً بين يدي التابوت، وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به وبمن قدم بين يدي التابوت، فلم يرجع حتى يقتل أو ينهزم عنه الجيش فقتل زوج المرأة، ونزل الملكان يقصان عليه قصته، ففطن داود فسجد ومكث أربعين ليلة ساجداً حتى نبت الزرع من دمومه على رأسه وأكلت الأرض من جبينه. وهو يقول في سجوده: ربِّ زلَّ داود زلَّة أبعدَ مما بين المشرق والمغرب، ربِّ إن لم ترحم ضعف داود، ولم تغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثاً في الخلق من بعده، فجاءه جِبريل من بعد أربعين ليلة فقال: يا داود إن الله قد غفر لك الهم الذي هممت به، فقال داود: إن الرب قادر على أن يغفر لي الهمّ الذي هممت به، وقد عرفت أن الله عدل لا يميل، فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة، فقال: يا رب دمي الذي عند داود، فقال جبريل: ما سألتُ ربك عن ذلك وإن شئت لأفعلن، فقال: نعم، فعرج جبريل وسجد داود، فمكث ما شاء الله ثم نزل جبريل، فقال: سألت الله يا داود عن الذي أرسلتني فيه، فقال: قل لداود إن الله يجمعكما يوم القيامة، فيقول له: هَبْ لي دمك الذي عند داود فيقول: هو لك يا رب، فيقول: إن لك في الجنة ما شئت وما اشتهيت عوضاً عنه" .

وروي عن ابن عباس، وعن كعب الأحبار، ووهب بن منبه قالوا جميعاً: إن داود لما دخل عليه الملكان فقضى على نفسه، فتحولا في صورتهما فعرجا وهما يقولان: قضى الرجل على نفسه، وعلم داود إنما عني به فخرَّ ساجداً أربعين يوماً، لا يرفع رأسه إلا لحاجة ولوقت صلاة مكتوبة، ثم يعود ساجداً تمام أربعين يوماً، لا يأكل ولا يشرب، وهو يبكي حتى نبت العشب حول رأسه وهو ينادي ربه عزّ وجلّ، ويسأله التوبة، وكان من دعائه في سجوده: سبحان الملك الأعظم الذي يبتلي الخلق بما يشاء، سبحان خالق النور، سبحان الحائل بين القلوب، سبحان خالق النور، إلهي أنت خليت بيني وبين عدوي إبليس فلم أقم لفتنته إذْ نزلت بي، سبحان خالق النور، إلهي أنت خلقتني وكان من سابق علمك ما أنا إليه صائر، سبحان خالق النور، إلهي الويل لداود إذا كشف عنه الغطاء، فيقال: هذا داود الخاطئ، سبحان خالق النور، إلهي بأي عين أنظر إليك يوم القيامة، وإنما ينظر الظالمون من طرف خفي، سبحان خالق النور، إلهي بأي قدم أمشي أمامك وأقوم بين يديك يوم القيامة يوم تزول أقدام الخاطئين، سبحان خالق النور، إلهي من أين يطلب العبد المغفرة إلاَّ من عند سيده؟ سبحان خالق النور، إلهي أنا الذي لا أطيق حرَّ شمسك، فكيف أطيق حرّ نارك؟ سبحان خالق النور، إلهي أنا الذي لا أطيق صوت رعدك؟ فكيف أطيق سوط جهنم؟ سبحان خالق النور، إلهي الويل لداود من الذنب العظيم الذي أصاب، سبحان خالق النور، إلهي قد تعلم سري وعلانيتي فاقبل عذري، سبحان خالق النور، إلهي برحمتك اغفر لي ذنوبي ولا تباعدني من رحمتك لهَواي، سبحان خالق النور، إلهي أعوذ بنور وجهك الكريم من ذنوبي التي أَوْبَقَتْني، سبحان خالق النور، فررت إليك بذنوبي واعترفت بخطيئتي فلا تجعلني من القانطين، ولا تخزني يوم الدين، سبحان خالق النور.

وقال مجاهد: مكث أربعين يوماً ساجداً لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموع عينيه حتى غطى رأسه، فنودي: يا داود أجائعٌ فتطعم؟ أم ظمآن فتسقى؟ أو عارٍ فتُكسى؟ فأجيب في غير ما طلب. قال: فَنحَبَ نحبةً هاج لها العود فاحترق من حرّ جوفه، ثم أنزل الله له التوبة والمغفرة.

قال وهب: إن داود أتاه نداء: أني قد غفرت لك، قال: يا رب كيف وأنت لا تظلم أحداً؟ قال: اذهب إلى قبر أوريا فنادِه، فأنا أُسْمِعُهُ نداءك فتحلل منه، قال: فانطلق وقد لبس المسوح حتى جلس عند قبره، ثم نادى أوريا، فقال: لبيك من هذا الذي قطع عليَّ لذتي وأيقظني؟ قال: أنا داود، قال: ما جاء بك يا نبي الله، قال: أسألك أن تجعلني في حِلٍّ مما كان مني إليك، قال: وما كان منك إليّ؟ قال: عرَّضْتُك للقتل، قال: عرضتني للجنة فأنت في حل، فأوحى الله إليه: يا داود ألم تعلم أني حكم عدل لا أقضي بالعنت، ألا أعلمته أنك قد تزوجت امرأته؟ قال: فرجع إليه فناداه فأجابه فقال: من هذا الذي قطع عليَّ لذتي؟ قال: أنا داود، قال: يا نبي الله أليس قد عفوتُ عنك؟ قال: نعم ولكن إنما فعلتُ ذلك بك لمكان امرأتك وقد تزوجتها، قال: فسكت ولم يجبه، ودعاه فلم يجبه، وعاوده فلم يجبه، فقام على قبره وجعل التراب على رأسه، ثم نادى: الويل لداود ثم الويل الطويل لداود، سبحان خالق النور، والويل لداود إذا نصبت الموازين بالقسط، سبحان خالق النور، الويل لداود ثم الويل الطويلله حين يؤخذ بذقنه فيدفع إلى المظلوم، سبحان خالق النور، الويل ثم الويل الطويل له حين يسحب على وجهه مع الخاطئين إلى النار، سبحان خالق النور، فأتاه نداء من السماء: يا داود قد غفرت لك ذنبك ورحمتُ بكاءك واستجبت دعاءك وأقلت عثرتك، قال: يا رب كيف وصاحبي لم يعفُ عني؟ قال: يا داود أعطيه من الثواب يوم القيامة ما لم تر عيناه ولم تسمع أذناه، فأقول له رضي عبدي؟ فيقول: يا رب من أين لي هذا ولم يبلغه عملي؟ فأقول: هذا عوض من عبدي داود فأستوهبك منه فيهبك لي، قال: يا رب الآن قد عرفت أنك قد غفرت لي. فذلك قوله تعالى:

{ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً }، أي ساجداً، عبّر بالركوع عن السجود، لأن كل واحد فيه انحناء.

قال الحسين بن الفضل: سألني عبد الله بن طاهر عن قوله: { وَخَرَّ راكِعاً } هل يقال للراكع: خرَّ؟ قلت: لا، ومعناه، فخرَّ بعدما كان راكعاً، أي: سجد. { وَأَنَابَ }، أي: رجع وتاب.