التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَٰوةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنَّ ٱلْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً
١٠١
-النساء

معالم التنزيل

قوله عزّ وجلّ: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ } أي: سافرتم، { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ }، أي: حرج وإثم { أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلوٰةِ }، يعني من أربع ركعات إلى ركعتين، وذلك في صلاة الظهر والعصر والعشاء { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ } أي: يغتالكم ويقتلكم { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }، في الصلاة، نظيره قوله تعالى: { عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ } [يونس: 83] أي: يقتلهم. { إِنَّ ٱلْكَـٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً } أي: ظاهر العداوة. اعلم أن قصر الصلاة في السفر جائز بإجماع الأمة، واختلفوا في جواز الإِتمام: فذهب أكثرهم إلى أن القصر واجب، وهو قول عمر وعلي وابن عمر وجابر وابن عباس رضي الله عنهما، وبه قال الحسن وعمر ابن عبد العزيز وقتادة وهو قول مالك وأصحاب الرأي، لِمَا

رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالتْ: "الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأُقرتْ صلاة السفر وأُتمت صلاة الحضر" .

وذهب قوم إلى جواز الإِتمام، رُوي ذلك عن عثمان وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما، وبه قال الشافعي رضي الله عنه، إنْ شاءَ أتمَّ وإنْ شاءَ قصرَ، والقصرُ أفضل.

[أخبرنا الإِمام عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا إبراهيم بن محمد عن طلحة بن عمرو عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالتْ: "كل ذلك قد فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم قصرَ الصلاةَ وأتمَّ" .

وظاهر القرآن يدل على هذا، لأنّه قال: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلوٰةِ }، ولفظ لا جُناح إنّما يُستعمل في الرخص لا فيما يكون حتْماً، فظاهر الآية [يُوجب أن القصر] لا يجوز إلا عند الخوف، وليس الأمر على ذلك، إنّما نزلت الآية على غالب أسفار النبي صلّى الله عليه وسلم، وأكثرها لم يخل عن خوف العدو.

والقصر جائز في السفر في حال الأمن عند عامة أهل العلم، والدليل عليه ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا مسلم بن خالد وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي روّاد عن ابن جريج أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار عن عبد الله بن بَابَاه عن يعلى بن أمية، قال: "قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنّما قال الله تعالى { أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلوٰةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ }، وقد أمن الناس، فقال عمر رضي الله عنه: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: صدقة تصدّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته" .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا عبد الوهاب عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "سافر رسول الله بين مكة والمدينة آمناً لا يخاف إلا الله فصلى ركعتين" .

وذهب قوم إلى أنّ ركعتي المسافر ليستا بقصر إنّما القصر أن يصلي ركعة واحدة في الخوف، يُروى ذلك عن جابر رضي الله عنه وهو قول عطاء وطاووس والحسن ومجاهد، وجعلوا شرط الخوف المذكور في الآية باقياً وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الاقتصار على ركعة واحدة لا يجوز خائفاً كان أو آمناً.

واختلف أهل العلم في مسافة القصر، فقالت طائفة: يجوز القصر في السفر الطويل والقصير، رُوي ذلك عن أنس رضي الله عنه، وقال عمرو بن دينار: قال لي جابر بن زيد: أقصرْ بعرفة، أمّا عامة الفقهاء فلا يُجوّزون القصر في السفر القصير.

واختُلِف في حد ما يجوز به القصر، فقال الأوزاعي: مسيرة يوم، وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم يقصران ويفطران في أربعة بُرُدٍ، وهي ستة عشر فرسخاً، وإليه ذهب مالك وأحمد وإسحاق، وقول الحسن والزهري قريب من ذلك، قالا: مسيرة يومين، وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه، قال: مسيرة ليلتين قاصدتين، وقال في موضع: ستة وأربعون ميلاً بالهاشمي، وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي: مسيرة ثلاثة أيام.

وقيل: قوله { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } متصل بما بعده من صلاة الخوف منفصل عمّا قبله، رُوي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال: نزل قوله { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلوٰةِ } هذا القدر، ثم بعد حَوْلٍ سألُوا رسولَ الله صلّى الله عليه وسلم عن صلاة الخوف فنزل: { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ، إِنَّ ٱلْكَـٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً }.