التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلَٰوةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوۤاْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَىۤ أَن تَضَعُوۤاْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً
١٠٢
-النساء

معالم التنزيل

{ وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ } الآية. ومثله في القرآن كثير أن يجيء الخبر بتمامه ثم يُنسق عليه خبرٌ آخر، وهو في الظاهر كالمتصل به، وهو منفصل عنه، كقوله تعالى: { { ٱلآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ أَنَا رَٰوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ } [يوسف: 51]، وهذه حكاية عن امرأة العزيز، وقوله: { { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ } [يوسف: 52] إخبار عن يوسف عليه السلام.

قوله تعالى { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلاَةَ } روَى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وجابر رضي الله عنهم: أن المشركين لمّا رأوا رسولَ الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابَه قامُوا إلى الظهر يُصلون جماعة ندموا أن لو كانوا كبُّوا عليهم، فقال بعضهم لبعض: دعوهم فإن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم يعني صلاة العصر، فإذا قاموا فيها فشدُّوا عليهم فاقتلوهم، فنزل جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إنها صلاة الخوف وإن الله عزّ وجلّ يقول: { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلاَةَ } فعلّمه صلاة الخوف.

وجملته: أن العدو إذا كانوا في معسكرهم في غير ناحية القبلة فيجعل الإِمام القوم فرقتين فتقف طائفة وِجَاهَ العدو تحرسُهم، ويشرع الإِمام مع طائفة في الصلاة، فإذا صلى بهم ركعة قام وثبت قائماً حتى أتموا صلاتهم، ذهبوا إلى وِجاهَ العدوِّ ثم أتت الطائفة الثانية فصلى بهم الركعة الثانية، وثبت جالساً حتى أتموا لأنفسهم الصلاة، ثم يُسلّم بهم.

وهذه رواية سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلَّى كذلك بذات الرقاع، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق.

أنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات "عمّن صلى مع النبي صلّى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: أنّ طائفة صفّت معه وصفت طائفة وِجَاهَ العدو فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائماً فأتموا لأنفسهم، ثم انصرفُوا وصفّوا وِجَاهَ العدو وجاءتِ الطائفةُ الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم ثم سلّم بهم" .

قال مالك: وذلك أحسن ما سمعت في صلاة الخوف.

وأخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا مسدد أنا يحيى عن شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حَثمة رضي الله عنهم عن النبي صلّى الله عليه وسلم بهذا.

وذهب قوم إلى أن الإِمام إذا قام إلى الركعة الثانية تذهب الطائفة الأولى في خلال الصلاة إلى وِجَاهَ العدو وتأتي الطائفة الثانية فيُصلي بهم الركعة الثانية ويسلّم وهم لا يسلمون بل يذهبون إلى وجاه العدو، وتعود الطائفة الأولى فتتمُّ صلاتَها، ثم تعود الطائفة الثانية فتتمُّ صلاتَها، وهذه رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى كذلك. وهو قول أصحاب الرأي.

أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي أنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي أنا أبو عيسى الترمذي أنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب أنا يزيد بن زريع أنا معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا فقاموا في مقام أولئك وجاء أولئك فصلى بهم ركعة أُخرى ثم سلم بهم، فقام هؤلاء فقضوا ركعتهم.

وكلتا الروايتين صحيحة، فذهب قوم إلى أن هذا من الاختلاف المباح، وذهب الشافعي رضي الله عنه إلى حديث سهل بن أبي حَثْمة لأنه أشد موافقة لظاهر القرآن وأحوط للصلاة وأبلغ في حراسة العدو، وذلك لأن الله تعالى قال: { فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ } أي: إذا صلّوا، ثم قال: { وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّواْ }، وهذا يدل على أن الطائفة الأولى قد صلوا، وقال: { فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ }، فمقتضاه أن يصلوا تمام الصلاة، فظاهره يدل على أن كل طائفة تفارق الإِمام بعد تمام الصلاة، والاحتياط لأمر الصلاة من حيث أنه لا يكثر فيها العمل والذهاب والمجيء، والاحتياط لأمر الحرب من حيث إنهم إذا لم يكونوا في الصلاة كان أمكن للحرب والهرب إن احتاجوا إليه. ولو صلى الإِمام أربع ركعات بكل طائفة ركعتين جاز.

أنا الإِمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسين الاسفراييني أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ قال أنا الصنعاني أنا عفان بن مسلم ثنا أبان العطار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله قال: "أقبلنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى إذا كنّا بذات الرقاع وكنّا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلّى الله عليه وسلم قال فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم معلّق بشجرة فأخذ سيفَ نبي الله صلّى الله عليه وسلم فاخترطه فقال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: أتخافني؟ قال: لا. قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله يمنعني منك، قال فتهدده أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: فأغمد السيف وعلّقه فنُودي بالصلاة، قال فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا فصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، قال: فكانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان" .

أخبرنا عبد الوهاب بن الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أخبرني الثقة ابن علية أو غيره عن يونس عن الحسن عن جابر رضي الله عنهم

أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يصلي بالناس صلاة الظهر في الخوف ببطن نخل، فصلى بطائفة ركعتين ثم سلم، ثم جاءت طائفة أخرى فصلى بهم ركعتين ثم سلم.

"ورُوي عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم في صلاة الخوف أنه صلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا.

ورواه زيد بن ثابت وقال: كانت للقوم ركعة واحدة وللنبي صلّى الله عليه وسلم ركعتان" .

وتأوله قوم على صلاة شدة الخوف، وقالوا: الفرض في هذه الحالة ركعة واحدة. وأكثر أهل العلم على أن الخوف لا ينقص عدد الركعات، وإن كان العدو في ناحية القبلة في مستوى إن حملوا عليهم رأوهم صلى الإِمام بهم جميعاً وحرسوا في السجود، كما

أخبرنا الإِمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو نعيم الاسفرايين أنا بو عوانة الحافظ أنا عمار أنا يزيد بن هارون أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء "عن جابر رضي الله عنهما قال: صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلاة الخوف فصففنا خلفه صفين، والعدو بيننا وبين القبلة فكبر النبي صلّى الله عليه وسلم وكبرنا جميعاً ثم ركع وركعنا جميعاً ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً، ثم انحدر للسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر نحر العدو فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود [ثم قاموا ثم] تقدم الصف المؤخر، وتأخر المقدم ثم ركع النبي صلّى الله عليه وسلم وركعنا جميعاً، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخراً في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا، ثم سلم النبي صلّى الله عليه وسلم وسلمنا جميعاً قال جابر رضي الله عنه: كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائهم" .

واعلم أنّ صلاة الخوف جائزة بعد الرسول صلّى الله عليه وسلم. عند عامة أهل العلم. ويُحكى عن بعضهم عدم الجواز ولا وجه له. وقال الإِمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه: كل حديث رُوي في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز، رُوي فيها ستة أوجه أو سبعة أوجه.

وقال مجاهد في سبب نزول هذه الآية عن ابن عياش الزرقي قال: كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد فصلينا الظهر، فقال المشركون: لقد أصبنا غرة لو حملنا عليهم، وهم في الصلاة فنزلت الآية بين الظهر والعصر.

قوله تعالى: { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ } أي: شهيداً معهم فأقمت لهم الصلاة، { فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ }، أي: فلتقف، كقوله تعالى: { وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } [البقرة: 20] أي: وقفُوا، { وَلْيَأْخُذُوۤاْ أَسْلِحَتَهُمْ }، واختلفوا في الذين يأخذون أسلحتهم، فقال بعضهم: أراد هؤلاء الذينَ وقفوا مع الإِمام يُصلّون يأخذون الأسلحة في الصلاة، فعلى هذا إنما يأخذه إذا كان لا يشغله عن الصلاة، ولا يُؤذي مَنْ بجنبه [فإذا شغلته حركته وثقّلتْهُ عن الصلاة كالجعبة والترس الكبير أو كان يؤذي من جنبه] كالرمح فلا يأخذه. وقيل: وليأخذوا أسلحتهم أي: الباقون الذين قاموا في وجه العدو، { فَإِذَا سَجَدُواْ }، أي: صلّوا، { فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ }، يُريد مكان الذين هم وِجَاهَ العدو، { وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّواْ }، وهم الذين كانوا في وجه العدو، { فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ }، قيل: هؤلاء الذين أتوا، وقيل: هم الذين صلّوا، { وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }، يتمنّى الكفار، { لَوْ تَغْفُلُونَ } أي: لو وجدُوكم غافلين، { عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَٰحِدَةً }، فيقصدونَكم ويحملون عليكم حملةً واحدة. { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَىۤ أَن تَضَعُوۤاْ أَسْلِحَتَكُمْ }، رخّص في وضع السلاح في حال المطر والمرض، لأن السلاح يثقل حمله في هاتين الحالتين، { وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ }، أي: رَاقِبُوا العدو كيلا يتغفلوكم، والحذر ما يُتقَى به من العدو.

وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: "نزلت في رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وذلك أنه غزا محارباً وبني أنمار، فنزلوا ولا يرون من العدو أحداً، فوضع الناس أسلحتهم، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم لحاجة له قد وضع سلاحه حتى قطع الوادي والسماء ترش، فَحَالَ الوادي بين رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبين أصحابه فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم في ظل شجرة فبصرَ بهِ غَوْرَث بن الحارث المحاربي فقال: قتلني الله إن لم أقتله، ثم انحدر من الجبل ومعه السيف فلم يشعر به رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلاّ وهو قائم على رأسه ومعه السيف قد سَلّهَ من غِمْدِهِ فقال: يا محمد من يعصمك مني الآن؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: الله، ثم قال: اللّهمّ اكفني غورث بن الحارث بما شئتَ، ثم أهوى بالسيف إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليضربه فأكبَّ لوجهِهِ مِن زَلْخةٍ زُلخَها من بين كتفيه، وندر سيفه فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخذه ثم قال: يا غورث من يمنعك مني الآن؟ قال: لا أحد، قال تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وأعطيكَ سيفكَ؟ قال: لا ولكن أشهد أن لا أقاتلك أبداً ولا أعين عليك عدواً، فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم سيفه، فقال غورث: والله لأنت خير مني، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: أجلْ أنا أحق بذلك منك، فرجع غورث إلى أصحابه فقالوا: ويلك ما منعك منه؟ قال: لقد أهويتُ إليه بالسيف لأضربه فوالله ما أدري من زلخني بين كتفي فخررت لوجهي، وذكر حاله قال: وسكن الوادي فقطع رسول الله صلّى الله عليه وسلم الوادي إلى أصحابه فأخبرهم الخبر وقرأ عليهم هذه الآية: { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَىۤ أَن تَضَعُوۤاْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ }" .

أي: من عدوِّكم. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية كان عبد الرحمن بن عوف جريحاً.

{ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَـٰفِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً }، يُهانُون فيه، والجُنَاح: الإِثم، من جنحت: إذا عدلت عن القصد.