{ بَلْ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ }، على دين وملة، قال مجاهد: على إمام. { وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَـٰرِهِم مُّهْتَدُونَ }، جعلوا أنفسهم باتباع آبائهم مهتدين.
{ وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ }، أغنياؤها ورؤساؤها، { إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَـٰرِهِم مُّقْتَدُونَ }، بهم.
{ قُلْ }، قرأ ابن عامر وحفص: "قال" على الخبر، وقرأ الآخرون "قل" على الأمر، { أَوَلَوْ جئْتُكُم }، قرأ أبو جعفر: "جئناكم" على الجمع، والآخرون "جئتكم" على الواحد، { بِأَهْدَىٰ }، بدين أصوب، { مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ }، قال الزجاج: قل لهم يا محمد أتتبعون ما وجدتم عليه آباءكم وإن جئتكم بأهدى منه؟ فأبوا أن يقبلوا, و{ قَالُوۤاْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَـٰفِرُونَ }.
{ فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ }.
قوله عزّ وجلّ: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِى بَرَآءٌ }، أي بريء، ولا يثنى "البراء" ولا يجمع ولا يُؤنث لأنه مصدر وضع موضع النعت. { مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱلَّذِى فَطَرَنِى }، خلقني { فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } يرشدني لدينه.
{ وَجَعَلَهَا }، يعني هذه الكلمة، { كَلِمَةً بَـٰقِيَةً فِى عَقِبِهِ }، قال مجاهد وقتادة: يعني كلمة التوحيد، وهي "لا إله إلا الله" كلمة باقية في عقبه في ذريته. قال قتادة: لا يزال في ذريته من يعبد الله ويوحده. وقال القرظي: يعني: وجعل وصية إبراهيم التي أوصى بها بنيه باقية في نسله وذريته، وهو قوله عزّ وجلّ:
{ وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبْرَٰهِيمُ بَنِيهِ } [البقرة: 132]. وقال ابن زيد: يعني قوله:
{ { أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [البقرة: 131]، وقرأ: { { هُوَ سَمَّـٰكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ } [الحج: 78]. { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }، لعل أهل مكة يتبعون هذا الدين ويرجعون عما هم عليه إلى دين إبراهيم، وقال السدي: لعلهم يتوبون ويرجعون إلى طاعة الله عزّ وجلّ.
{ بَلْ مَتَّعْتُ هَـٰؤُلاَءِ وَءَابَآءَهُمْ }، يعني: المشركين في الدنيا، ولم أعاجلهم بالعقوبة على الكفر، { حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ }، يعني القرآن، وقال الضحاك: الإسلام. { وَرَسُولٌ مُّبِينٌ }، يبين لهم الأحكام وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وكان من حق هذا الإنعام أن يطيعوه، فلم يفعلوا، وعصوا.
وهو قوله عز وجل: { وَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ }، يعني القرآن، { قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَـٰفِرُونَ * وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }، يعنون الوليد بن المغيرة من مكة، وعروة بن مسعود الثقفي بالطائف، قاله قتادة.
وقال مجاهد: عتبة بن ربيعة من مكة، وابن عبد ياليل الثقفي من الطائف.
وقيل: الوليد بن المغيرة من مكة، ومن الطائف: حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي. ويُروى هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
قال الله تعالى: { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ }،
يعني النبوة، قال مقاتل: يقول: بأيديهم مفاتيح الرسالة فيضعونها حيث شاؤوا؟ ثم قال:
{ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا }، فجعلنا هذا غنياً وهذا فقيراً وهذا مالكاً وهذا مملوكاً، فكما فضلنا بعضهم على بعض في الرزق كما شئنا، كذلك اصطفينا بالرسالة من شئنا.
{ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـٰتٍ }، بالغنى والمال، { لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً }، ليستخدم بعضهم بعضاً فيسخر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل، فيكون بعضهم لبعض سبب المعاش، هذا بماله، وهذا بأعماله، فيلتئم قِوامُ أمر العالم. وقال قتادة والضحاك: يملك بعضهم بمالهم بعضاً بالعبودية والملك. { وَرَحْمَتُ ربِّكَ }، [يعني الجنة]، { خَيْرٌ }، للمؤمنين، { مِّمَّا يَجْمَعُونَ }، مما يجمع الكفار من الأموال.
{ وَلَوْلآ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً }، أي: لولا أن يصيروا كلهم كفاراً فيجتمعون على الكفر، { لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ }، قرأ ابن كثير، وأبو جعفر، وأبو عمرو: "سَقْفاً" بفتح السين وسكون القاف على الواحد، ومعناه الجمع، كقوله تعالى:
{ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ } [النحل: 26]، وقرأ الباقون بضم السين والقاف على الجمع، وهي جمع "سقف" مثل رُهُن ورَهْن، قال أبو عبيدة: ولا ثالث لهما. وقيل: هو جمع سقيف. وقيل: جمع سقوف جمع الجمع. { وَمَعَارِجَ }، مصاعد ودرجاً من فضة، { عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ }، يعلون ويرتقون، يقال: ظهرت على السطح إذا علوته. { وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَٰباً }، من فضة، { وَسُرُراً } أي: وجعلنا لهم سرراً من فضة، { عَلَيْهَا يَتَّكئُون }.
{ وَزُخْرُفاً }، أي وجعلنا مع ذلك لهم زخرفاً وهو الذهب، نظيره:
{ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ } [الإسراء: 93]، { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا }، قرأ حمزة وعاصم "لما" بالتشديد على معنى: وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا، فكان: "لما" بمعنى إلاّ، وخففه الآخرون على معنى: وكل ذلك متاع الحياة الدنيا، فيكون: "إن" للابتداء، و"ما" صلة، يريد: إن هذا كله متاع الحياة الدنيا يزول ويذهب، { وَٱلأَخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ }، خاصة يعني الجنة. أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن هارون الطيسفوني، أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمر بن بسطام، أخبرنا أحمد بن سيَّار القرشي، حدثنا عبد الرحمن بن يونس أبو مسلم، حدثنا أبو بكر بن منظور، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها قطرة ماء" . أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا عبد الله، أخبرنا محمد بن إبراهيم بن عبد الله الخلال، أخبرنا عبد الله ابن المبارك، عن مجالد بن سعيد، عن قيس بن أبي حازم، عن المستورد بن شداد أخي بني فهر قال: كنت في الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السخلة الميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أترون هذه هانت على أهلها حتى ألقوها؟ قالوا: من هوانِها ألقوها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها" .