التفاسير

< >
عرض

فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَنِعْمَةً وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٨
وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ وَأَقْسِطُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ
٩
إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
١٠
-الحجرات

معالم التنزيل

{ فَضْلاً }، أي كان هذا فضلاً، { مِّنَ ٱللهِ وَنِعْمَةً وَٱللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }.

قوله عزّ وجلّ: { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا }، الآية.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا مسدد، حدثنا معتمر قال سمعت أبي يقول: إن أنساً قال: "قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أتيتَ عبد الله بن أُبي، فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم وركب حماراً وانطلق المسلمون يمشون معه، وهي أرض سبخة، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إليك عني، والله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار منهم: والله لحمار رسول الله أطيب ريحاً منك، فغضب لعبد الله رجلٌ من قومه فتشاتما، فغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنها نزلت: { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا }" .

ويروى أنها لما نزلت قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاصطلحوا وكفَّ بعضهم عن بعض.

وقال قتادة: نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مداراة في حقٍ بينهما، فقال أحدهما للآخر: لآخذنّ حقي منك عنوة، لكثرة عشيرته، وإن الآخر دعاه ليحاكمه إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يتبعه، فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال، ولم يكن قتال بالسيوف.

وقال سفيان عن السدي: كانت امرأة من الأنصار يقال لها أم زيد تحت رجل، وكان بينها وبين زوجها شيء فرقى بها إلى عُلية وحبسها، فبلغ ذلك قومها فجاؤوا، وجاء قومه فاقتتلوا بالأيدي والنعال، فأنزل الله عزّ وجلّ: { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } بالدعاء إلى حكم كتاب الله والرضا بما فيه لهما وعليهما، { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا }، تعدت إحداهما، { عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ }، وأبت الإِجابة إلى حكم كتاب الله، { فَقَـٰتِلُواْ ٱلَّتِى تَبْغِى حَتَّىٰ تَفِىۤءَ }، ترجع، { إِلَىٰ أَمْرِ ٱللهِ }، في كتابه { فَإِن فَآءَتْ }، رجعت إلى الحق، { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِـٱلْعَدْلِ }، بحملهما على الإنصاف والرضا بحكم الله، { وَأَقْسِطُوۤاْ }، اعدلوا، { إِنَّ ٱللهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ }.

{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }، في الدين والولاية، { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ }، إذا اختلفا واقتتلا، قرأ يعقوب "بين إخْوتكم" بالتاء على الجمع، { وَٱتَّقُواْ ٱللهَ }، فلا تعصوه ولا تخالفوا أمره، { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو محمد الحسين بن أحمد المخلدي، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يشتمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كُرْبةً فرّج الله بها عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة" .

وفي هاتين الآيتين دليل على أن البغي لا يزيل اسم الإِيمان، لأن الله تعالى سماهم إخوة مؤمنين مع كونهم باغين، يدل عليه ما روي عن الحارث الأعور أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه سئل - وهو القدوة - في قتال أهل البغي، عن أهل الجمل وصفين: أمشركون هم؟ فقال: لا، مِنَ الشرك فرّوا، فقيل: أمنافقون هم؟ فقال: لا، إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، قيل: فما حالهم؟ قال: إخواننا بغَوْا علينا.

والباغي في الشرع هو الخارج على الإِمام العدل، فإذا اجتمعت طائفة لهم قوة ومنعة فامتنعوا عن طاعة الإِمام العدل بتأويل محتمل، ونصبوا إماماً فالحكم فيهم أن يبعث الإِمام إليهم ويدعوهم إلى طاعته، فإن أظهروا مظلمة أزالها عنهم، وإن لم يذكروا مظلمة، وأصروا على بغيهم، قاتلهم الإِمام حتى يفيئوا إلى طاعته، ثم الحكم في قتالهم أن لا يتّبع مُدْبِرُهم ولا يقتل أسيرهم، ولا يذفف على جريحهم، نادى منادي علي رضي الله عنه يوم الجمل: ألا لا يُتّبع مدبر ولا يُذفّف على جريح. وأتي علي رضي الله عنه يوم صفين بأسير فقال له: لا أقتلك صبراً إني أخاف الله رب العالمين. وما أتلفتْ إحدى الطائفتين على الأخرى في حال القتال من نفس أو مال فلا ضمان عليه.

قال ابن شهاب: كانت في تلك الفتنة دماء يعرف في بعضها القاتل والمقتول، وأتلف فيها أموال كثيرة، ثم صار الناس إلى أن سكنت الحرب بينهم، وجرى الحكم عليهم فما علمتُه اقتصّ من أحد ولا أغرم مالاً أتلفه.

أما من لم يجتمع فيهم هذه الشرائط الثلاث بأن كانوا جماعة قليلين لا منعة لهم، أو لم يكن لهم تأويل، أو لم ينصبوا إماماً فلا يتعرض لهم إن لم ينصبوا قتالاً أو لم يتعرضوا للمسلمين، فإن فعلوا فهم كقطاع الطريق.

رُوي أن علياً رضي الله عنه سمعَ رجلاً يقول في ناحية المسجد: لا حكم إلا لله تعالى، فقال علي: كلمة حق أُريدَ بها باطل، لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم من مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بقتال.