التفاسير

< >
عرض

تَرَىٰ كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي ٱلْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ
٨٠
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ وَلَـٰكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ
٨١
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ
٨٢
-المائدة

معالم التنزيل

قوله تعالى: { تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ }، قيل: من اليهود كعب بن الأشرف وأصحابه، { يَتَوَلَّوْنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }، مشركي مكة حين خرجوا إليهم يجيشون على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس ومجاهد والحسن: منهم يعني المنافقين يتولّون اليهود، { لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ }، بئس ما قدّموا من العمل لمعادهم في الآخرة، { أَن سَخِطَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ }، غضب الله عليهم، { وَفِى ٱلْعَذَابِ هُمْ خَـٰلِدُونَ }.

{ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىِّ } محمد صلى الله عليه وسلم، { وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ }، يعني: القرآن، { مَا اتَّخَذُوهُمْ }، يعني: الكفار، { أَوْلِيَآءَ وَلَـٰكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَـٰسِقُونَ }، أي: خارجون عن أمر الله سبحانه وتعالى.

قوله عزّ وجلّ: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ }، يعني: مشركي العرب، { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ }، لم يرد به جميع النصارى لأنهم في عداوتهم المسلمين كاليهود في قتلهم المسلمين، وأسرهم وتخريب بلادهم وهدم مساجدهم وإحراق مصاحفهم، لا ولاء، ولا كرامة لهم، بل الآية فيمن أسلم منهم مثل النجاشي وأصحابه. [وقيل: نزلت في جميع اليهود وجميع النصارى، لأن اليهود أقسى قلباً والنصارى ألين قلباً منهم، وكانوا أقل مظاهرة للمشركين من اليهود.]

قال أهل التفسير: "ائتمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يُؤذونهم ويعذبونهم، فافتتن من افتتن، وعصم الله منهم من شاء، ومنع الله تعالى رسوله بعمّه أبي طالب، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بأصحابه ولم يقدر على منعهم ولم يُؤمرْ بعدُ بالجهاد أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة، وقال: إنّ بها ملكاً صالحاً لا يظلم ولا يُظلم عنده أحد، فاخْرُجُوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجاً" . وأراد به النجاشي واسمه أصحمة وهو بالحبشة عطية، وإنما النجاشي اسم الملك ـ كقولهم قيصر وكسرى ـ فخرج إليها سراً أحد عشر رجلاً وأربع نسوة، وهم عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والزبير بن العوام وعبدالله بن مسعود، [وعبد الرحمن بن عوف] وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو، ومصعب بن عمير وأبو سلمة بن عبدالأسد وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية، وعثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي [حثمة]، وحاطب بن عمرو و[سهل] بن بيضاء رضي الله عنهم، فخرجوا إلى البحر وآجروا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الهجرة الأولى ثم خرج جعفر بن أبي طالب، وتتابع المسلمون إليها، فكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلاً سوى النساء والصبيان.

فلما علمت قريش بذلك وجهوا عمرو بن العاص وصاحبه بالهدايا إلى النجاشي وبطارقته ليردّوهم إليهم، فعصمهم الله وذكرت القصة في سورة آل عمران.

فلما انصرفا خائبين، أقام المسلمون هناك بخير دار وأحسن جوار إلى أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلا أمره وذلك في سنة ست من الهجرة كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي على يد عمرو بن أمية الضمري ليزوّجه أم حبيبة بنت أبي سفيان ـ وكانت قد هاجرت إليه مع زوجها فمات زوجها ـ ويبعث إليه من عنده من المسلمين فأرسل النجاشي إلى أم حبيبة جارية يقال لها: أبرهة تخبرها بخطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إيّاها، فأعطتها أوضاحاً لها سروراً بذلك، فأذن لخالد بن سعيد بن العاص حتى أنكحها على صداق أربعمائة دينار، وكان الخاطب لرسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشيرحمه الله فأنفذ إليها النجاشي أربعمائة دينار على يد أبرهة، فلما جاءتْها بها أعطتها خمسين ديناراً فردته وقالت: أمرني الملك أن لا آخذ منك شيئاً، وقالت: أنا صاحب دهن الملك وثيابه، وقد صدقتُ محمداً صلى الله عليه وسلم وآمنتُ به، وحاجتي منك أن تُقرئيه مني السلام، قالت: نعم، قالت أبرهة: وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من عُودٍ وعنبر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عليها وعندها فلا ينكر.

قالتْ أم حبيبة: فخرجنا إلى المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، فخرج من خرج إليه وأقمت بالمدينة حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلت عليه وكان يسألني عن النجاشي فقرأت عليه من أبرهة السلام فردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله عزّ وجلّ: "عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهمْ مودةً"، يعني: أبا سفيان مودة، يعني: بتزويج أم حبيبة، ولما جاء أبا سفيان تزويج أم حبيبة، قال: ذلك الفحل لا يقرع أنفُه.

وبعث النجاشي بعد قدوم جعفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابنه أزهى بن أصحمة بن أبجر في ستين رجلاً من الحبشة، وكتب إليه: يا رسول الله أشهد أنك رسول الله صادقاً مصدَّقاً وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت لله ربَّ العالمين، وقد بعثتُ إليك ابني أزهى، وإن شئت آتيك بنفسي فعلت والسلام عليك يا رسول الله، فركبوا سفينة في أثر جعفر وأصحابه حتى إذا كانوا في وسط البحر غرقوا، ووافى جعفر وأصحابه رسولَ الله في سبعين رجلاً عليهم ثياب الصوف، منهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من [أهل] الشام، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس إلى آخرها، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا، وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى عليه السلام، فأنزل الله سبحانه وتعالىٰ هذه الآية: { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ }، يعني: وفد النجاشي الذين قدموا مع جعفر وهم السبعون، وكانوا أصحاب الصوامع.

وقال مقاتل والكلبي: كانوا أربعين رجلاً اثنان وثلاثون من الحبشة، وثمانية من أهل الشام.

[وقال عطاء: كانوا ثمانين رجلاً أربعون من أهل نجران من بني الحرث بن كعب، واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية روميون من أهل الشام].

وقال قتادة: نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى عليه السلام، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم صدّقوه وآمنوا به فأثنى الله عزّ وجلّ بذلك عليهم. { ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ }، أي: علماء، قال قُطْرب: القس والقسيس العالم بلغة الروم، { وَرُهْبَاناً }، الرهبان العُبَّاد أصحاب الصوامع واحدهم راهب، مثل فارس وفرسان، وراكب وركبان، وقد يكون واحداً وجمعه رهابين، مثل قربان وقرابين، { وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ }، لا يتعظّمون عن الإيمان والإذعان للحق.