التفاسير

< >
عرض

فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا
٢٩
ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱهْتَدَىٰ
٣٠
وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى
٣١
ٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِشَ إِلاَّ ٱللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ ٱلْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ
٣٢
أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي تَوَلَّىٰ
٣٣
وَأَعْطَىٰ قَلِيلاً وَأَكْدَىٰ
٣٤
أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ
٣٥
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ
٣٦
وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ
٣٧
أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ
٣٨
-النجم

معالم التنزيل

{ فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا }، يعني القرآن. وقيل: الإيمان، { وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا }.

ثم صغّر رأيهم فقال: { ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ }، أي: ذلك نهاية علمهم وقدر عقولهم أن آثروا الدنيا على الآخرة.

وقيل: لم يبلغوا من العلم إلاّ ظنهم أن الملائكة بنات الله، وأنها تشفع لهم، فاعتمدوا على ذلك وأعرضوا عن القرآن.

{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱهْتَدَىٰ }، أي: هو عالم بالفريقين فيجازيهم.

{ وَللهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلأَرْضِ }، وهذا معترض بين الآية الأولى وبين قوله: { لِيَجْزِىَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ }، فاللام في قوله: "ليجزي" متعلق بمعنى الآية الأولى، لأنه إذا كان أعلم بهم جازى كلاً بما يستحقه، الذين أساؤوا وأشركوا: بما عملوا من الشرك، { وَيِجْزِى ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى }، وحّدوا ربهم: "بالحسنى" بالجنة. وإنما يقدر على مجازاة المحسن والمسيء إذا كان كثير الملك، ولذلك قال: { وَللهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلأَرْضِ }.

ثم وصفهم فقال: { ٱلَّذِينَ يَجْتَنِبونَ كبَـٰئِرَ ٱلإِثمِ وَٱلْفَوَٰحِشَ إِلاَّ ٱللَّمَمَ }، اختلفوا في معنى الآية، فقال قوم: هذا استثناء صحيح، واللّمم: من الكبائر والفواحش، ومعنى الآية: إلا أن يلم بالفاحشة مرة ثم يتوب، ويقع الوقعة ثم ينتهي وهو قول أبي هريرة ومجاهد والحسن، ورواية عطاء عن ابن عباس.

قال عبد الله بن عمرو بن العاص: اللَّمم ما دون الشرك.

وقال السدي قال أبو صالح: سئلت عن قول الله تعالى: { إِلاَّ ٱللَّمَمَ }، فقلت: هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده، فذكرت ذلك لابن عباس فقال: لقد أعانك عليهما ملك كريم.

وروينا عن عطاء عن ابن عباس في قوله: { إِلاَّ ٱللَّمَمَ }، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنْ تغفرِ اللهمَّ تغفرْ جمّاً وأيّ عبد لك إلا ألمّا" .

وأصل "اللمم والإلمام": ما يعمله الإنسان الحينَ بعد الحين، ولا يكون إعادة، ولا إقامة.

وقال آخرون: هذا استثناء منقطع، مجازه: لكن اللمم، ولم يجعلوا اللّمم من الكبائر والفواحش، ثم اختلفوا في معناه، فقال بعضهم: هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم الله به، وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين: إنهم كانوا بالأمس يعملون معنا؟ فأنزل الله هذه الآية. وهذا قول زيد بن ثابت وزيد بن أسلم.

وقال بعضهم: هو صغار الذنوب كالنظرة والغمزة والقبلة وما كان دون الزنا، وهو قول ابن مسعود، وأبي هريرة، ومسروق، والشعبي، ورواية طاووس عن ابن عباس.

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا محمود بن عيلان، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس قال: ما رأيتُ أشبه باللّمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب على ابن آدم حظَّه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك ويكذبه" .

ورواه سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد: "العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش. والرجل زناها الخطى" .

وقال الكلبي: "اللّمم" على وجهين: كل ذنب لم يذكر الله عليه حدّاً في الدنيا ولا عذاباً في الآخرة، فذلك الذي تكفره الصلوات ما لم يبلغ الكبائر والفواحش، والوجه الآخر هو: الذنب العظيم يلم به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه.

وقال سعيد بن المسيَّب: هو ما لَمَّ على القلب أي خطر.

وقال الحسين بن الفضل: "اللمم" النظرة من غير تعمدٍ فهو مغفور، فإن أعاد النظرة فليس بلمم وهو ذنب.

{ إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلْمَغْفِرَةِ }، قال ابن عباس: لمن فعل ذلك وتاب، تم الكلام هاهنا، ثم قال: { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ }، أي خلق أباكم آدم من التراب، { وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ }، جمع جنين، سُمي جنيناً لاجتنانه في البطن، { فِى بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ }، قال ابن عباس: لا تمدحوها. قال الحسن: علم الله من كل نفس ما هي صانعة وإلى ما هي صائرة، فلا تزكوا أنفسكم، فلا تبرؤوها عن الآثام، ولا تمدحوها بحسن أعمالها.

قال الكلبي ومقاتل: كان الناس يعملون أعمالاً حسنة ثم يقولون: صلاتنا وصيامنا وحجنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ }، أي: بَرَّ وأطاع وأخلص العمل لله تعالى.

قوله عزّ وجلّ: { أَفَرَءَيْتَ ٱلَّذِى تَوَلَّىٰ }، نزلت في الوليد بن المغيرة، كان قد اتبع النبي صلى الله عليه وسلم على دينه فعيَّره بعض المشركين، وقال له: أتركت دين الأشياخ وضلَّلْتهم؟ قال: إني خشيت عذاب الله فضمن الذي عاتبه إن هو وافقه أعطاه كذا من ماله ورجع إلى شكره أن يتحمل عنه عذاب الله، فرجع الوليد إلى الشرك وأعطى الذي عيّره بعض ذلك المال الذي ضمن ومنعه تمامه، فأنزل الله عزّ وجلّ: { أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِى تَوَلَّىٰ } أدبر عن الإِيمان { وَأَعْطَىٰ }، صاحبه، { قَلِيلاً وَأَكْدَىٰ }، بخل بالباقي.

وقال مقاتل: "أعطى" يعني الوليد "قليلاً" من الخير بلسانه، ثم "أكدى": يعني قطعه ولم يقم على العطية.

وقال السدي: نزلت في العاص بن وائل السهمي، وذلك أنه كان ربما يوافق النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور.

وقال محمد بن كعب القرظي: نزلت في أبي جهل وذلك أنه قال: والله ما يأمرنا محمد إلاّ بمكارم الأخلاق، فذلك قوله: { وَأَعْطَىٰ قَلِيلاً وَأَكْدَىٰ }، أي لم يؤمن به، ومعنى "أكدى": يعني قطع، وأصله من الكدية، وهي حجر يظهر في البئر يمنع من الحفر، تقول العرب: أكدى الحافر وأجبل، إذا بلغ في الحفر الكدية والجبل.

{ أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ فَهوَ يَرَىٰ }، ما غاب عنه ويعلم أن صاحبه يتحمل عنه عذابه.

{ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ }، لم يخبر، { بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَىٰ }، يعني: أسفار التوراة.

{ وَإِبْرَٰهِيمَ }، وفي صحف إبراهيم عليه السلام، { ٱلَّذِى وَفَّىٰ }، تمّم وأكمل ما أمر به.

قال الحسن، وسعيد بن جبير وقتادة: عمل بما أمر به وبلغ رسالات ربه إلى خلقه.

قال مجاهد: وفّى بما فُرض عليه.

قال الربيع: وفّى رؤياه وقام بذبح ابنه.

وقال عطاء الخراساني: استكمل الطاعة. وقال أبو العالية: وفّى سهام الإِسلام. وهو قوله: { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَٰهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَـٰتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } [البقرة:124]، والتوفية الإِتمام. وقال الضحاك: وفّى ميثاق المناسك.

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الزهري، حدثنا إسحاق بن منصور عن إسرائيل عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِبْرَٰهِيمَ ٱلَّذِى وَفَّىٰ صلى أربع ركعات أول النهار" .

أخبرنا أبو عثمان الضبي، أخبرنا أبو محمد الجراحي، حدثنا أبو العباس المحبوبي، حدثنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا أبو جعفر السمناني، حدثنا أبو مسهر، حدثنا إسماعيل بن عياش عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء وأبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله تبارك وتعالى أنه قال: "ابنَ آدم اركعْ لي أربعَ ركعاتٍ من أول النهار أكفِكَ آخره" .

ثم بيّن ما في صحفهما فقال:

{ أَلاَّ تَزِرُ وَٰزِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ }، أي: لا تحمل نفس حاملة حملَ أخرى، ومعناه: لا تؤخذ نفس بإثم غيرها، وفي هذا إبطال قول من ضمن للوليد بن المغيرة بأنه يحمل عنه الإِثم. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: كانوا قبل إبراهيم عليه السلام يأخذون الرجل بذنب غيره، كان الرجل يقتل بقتل أبيه وابنه وأخيه وامرأته وعبده، حتى كان إبراهيم عليه السلام فنهاهم عن ذلك، وبلَّغهم عن الله { أَلاَّ تَزِرُ وَٰزِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ }.