التفاسير

< >
عرض

وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ
٨
هُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَإِنَّ ٱللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ
٩
وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَـٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
١٠
مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ
١١
يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١٢
يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ
١٣
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَٱرْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ ٱلأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ
١٤
-الحديد

معالم التنزيل

{ وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَـٰقَكُمْ }، قرأ أبو عمرو { أُخِذَ } بضم الهمزة وكسر الخاء { ميثاقُكم } برفع القاف على ما لم يسمَّ فاعله. وقرأ الآخرون بفتح الهمزة والخاء والقاف، أي: أخذ الله ميثاقكم حين أخرجكم من ظهر آدم عليه السلام، بأن الله ربكم لا إله لكم سواه، قاله مجاهد.

وقيل: أخذ ميثاقكم بإقامة الحجج والدلائل التي تدعو إلى متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

{ إِن كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ } يوماً، فالآن أحرى الأوقات أن تؤمنوا لقيام الحجج والإعلام ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن.

{ هُوَ ٱلَّذِى يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ }، محمد صلى الله عليه وسلم, { ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ }، يعني القرآن، { لِيُخْرِجَكُم }، الله بالقرآن، { مِّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى النُّورِ }، وقيل: ليخرجكم الرسول بالدعوة من الظلمات إلى النور أي من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان، { وَإِنَّ ٱللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رحيم }.

{ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ }، يقول: أي شيء لكم في ترك الإنفاق فيما يقرب من الله وأنتم ميتون تاركون أموالكم، ثم بين فضل من سبق بالإنفاق في سبيل الله وبالجهاد فقال: { لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلفَتْح }، يعني فتح مكة في قول أكثر المفسرين، وقال الشعبي: هو صلح الحديبية، { وَقَٰتَلَ }، يقول: لا يستوي في الفضل من أنفق ماله وقاتل العدو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة مع من أنفق وقاتل بعده، { أُوْلَـٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَٰتَلُوا }. وروى محمد بن فضيل عن الكلبي أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فإنه أول من أسلم وأول من أنفق ماله في سبيل الله. وقال عبد الله بن مسعود: أول من أظهر إسلامه بسيفه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر.

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي, أخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد, أخبرنا أحمد بن إسحاق بن أيوب, أخبرنا محمد بن يونس, حدثنا العلاء بن عمرو الشيباني, حدثنا أبو إسحاق الفزاري, حدثنا سفيان بن سعيد عن آدم بن علي عن ابن عمر قال: "كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وعليه عباءة قد خلها في صدره بخلال، فنزل عليه جبريل فقال: مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال؟ فقال: أنفق ماله عليّ قبل الفتح قال: فإن الله عزّ وجلّ يقول: اقرأ عليه السلام وقل له: أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر إن الله عزّ وجلّ يقرأ عليك السلام ويقول لك: أراضٍ أنت في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال أبو بكر: أأسخط على ربي؟ إني عن ربي راضٍ إني عن ربي راضٍ" .

{ وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ الحُسْنَى }، أي كلا الفريقين وعدهم الله الجنة. قال عطاء: درجات الجنة تتفاضل، فالذين أنفقوا قبل الفتح في أفضلها. وقرأ ابن عامر: "وكل" بالرفع، { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير }.

{ مَّن ذَا ٱلَّذِى يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَٰعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ * يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم }، يعني على الصراط، { بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـٰنِهِمْ }، يعني عن أيمانهم. قال بعضهم: أراد جميع جوانبهم, فعبر بالبعض عن الكل وذلك دليلهم إلى الجنة.

وقال قتادة: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء ودون ذلك، حتى أن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه" .

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة، ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم, وأدناهم نوراً مَنْ نوره أعلى إبهامه فيطفأ مرة ويقد مرة.

وقال الضحاك ومقاتل: "يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم" كتبهم, يريد أن كتبهم التي أعطوها بأيمانهم ونورهم بين أيديهم، وتقول لهم الملائكة: { بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّـٰتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ ٱلفَوْزُ ٱلعَظِيم }.

{ يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلْمُنَـٰفِقَـٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱنظُرُونَا }، قرأ الأعمش وحمزة: "أنظرونا" بفتح الهمزة وكسر الظاء يعني أمهلونا. وقيل: انتظرونا. وقرأ الآخرون بحذف الألف في الوصل وضمها في الابتداء وضم الظاء، تقول العرب: انظرني وأنظرني يعني انتظرني. { نَقْتَبِسْ مِن نُورِكُمْ }، نستضيء من نوركم، وذلك أن الله تعالى يعطي المؤمنين نوراً على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط، ويعطي المنافقين أيضاً نوراً خديعة لهم، وهو قوله عزّ وجلّ: { { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [النساء: 141]، فبينما هم يمشون إذ بعث الله عليهم ريحاً وظلمة فأطفأ نور المنافقين، فذلك قوله: { { يَوْمَ لاَ يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِىَّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أيْدِيهِمْ وبأيمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } [التحريم: 8] مخافة أن يسلبوا نورهم كما سلب نور المنافقين.

وقال الكلبي: بل يستضيء المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور فإذا سبقهم المؤمنون وبقوا في الظلمة قالوا للمؤمنين: انظرونا نقتبس من نوركم، { قِيلَ ٱرجِعُوا وَرَاءَكُمْ }، قال ابن عباس: يقول لهم المؤمنون، وقال قتادة: تقول لهم الملائكة: ارجعوا وراءكم من حيث جئتم، { فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً }، فاطلبوا هناك لأنفسكم نوراً فإنه لا سبيل لكم إلى الاقتباس من نورنا، فيرجعون في طلب النور فلا يجدون شيئاً فينصرفون إليهم ليلقوهم فيميز بينهم وبين المؤمنين، وهو قوله: { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بسور }، أي سور، و"الباء" صلة يعني بين المؤمنين والمنافقين، وهو حائط بين الجنة والنار، { له } أي لذلك السور، { بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَة }، أي في باطن ذلك السور الرحمة وهي الجنة، { وَظَٱهِرُهُ }، أي خارج ذلك السور، { مِنْ قِبَلِهِ }، أي من قبل ذلك الظاهر، { ٱلْعَذَابُ }، وهو النار.

{ يُنَادُونَهُمْ } روي عن عبد الله بن عمرو قال: إن السور الذي ذكر الله تعالى في القرآن { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ } هو سور بيت المقدس الشرقي, باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، وادي جهنم.

وقال شريح: كان كعب يقول: في الباب الذي يسمى "باب الرحمة" في بيت المقدس: إنه الباب الذي قال الله عزّ وجلّ: { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ باب } الآية، "ينادونهم" يعني: ينادي المنافقون المؤمنين من وراء السور حين حُجِزَ بينهم بالسور وبقوا في الظلمة:

{ أَلَمْ نَكُن مَعَكُمْ } في الدنيا نصلي ونصوم؟ { قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أنفُسَكُمْ }، أهلكتموها بالنفاق والكفر واستعملتموها في المعاصي والشهوات، وكلها فتنة، { وَتَرَبَصْتُمْ }، بالإيمان والتوبة. قال مقاتل: وتربصتم بمحمد الموت وقلتم يوشك أن يموت فنستريح منه، { وٱرْتَبْتُمْ }، شككتم في نبوته وفيما أوعدكم به, { وَغرَّتْكُمُ ٱلأَمَانِىّ }، الأباطيل وما كنتم تتمنون من نزول الدوائر بالمؤمنين { حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللهِ }، يعني الموت، { وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلغَرُورُ }، يعني الشيطان، قال قتادة: ما زالوا على خدعة من الشيطان حتى قذفهم الله في النار.