التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٦
مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ ٱلأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٧
لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ
٨
-الحشر

معالم التنزيل

{ وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ }، أي رده على رسوله. يقال أفاء يفيء أي رجع، وأفاء الله، { منهم } أي من يهود بني النضير، { فَمَآ أَوْجَفْتُمْ } أوضعتم، { عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَاب }، يقال: وجف الفرس والبعير يجف وجيفاً وهو سرعة السير، وأوجفه صاحبه إذا حمله على السير، وأراد بالركاب الإبل التي تحمل القوم. وذلك أن بني النضير لما تركوا رباعهم وضياعهم طلب المسلمون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسمها بينهم، كما فعل بغنائم خيبر، فبين الله تعالى في هذه الآية أنها فيء لم يوجف المسلمون عليها خيلاً ولا ركاباً ولم يقطعوا إليها شقة ولا نالوا مشقة ولم يلقوا حرباً، { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قدير }، فجعل أموال بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث يشاء، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئاً إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة، وهم أبو دجانة سماك بن خرشة, وسهل بن حنيف, والحارث بن الصمة.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا أبو اليمان, أخبرنا شعيب عن الزهري, أخبرني مالك بن أوس بن الحَدَثان النَّضْري, أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعاه إذ جاءه حاجبه يَرْفَأُ، فقال: هل لك في عثمان وعبد الرحمن والزبير وسعد يستأذنون؟ قال: نعم، فأدخِلْهم فلبث يرفأ قليلاً ثم جاء فقال: هل لك في عباس وعلي يستأذنان؟ قال: نعم، فلما دخلا قال عباسٌ: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا, - وهما يختصمان في الذي أفاء الله على رسوله من بني النضير - فقال الرهط: يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرِحْ أحدهما من الآخر, قال: اتئدوا, أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا صدقة" يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه؟ قالوا: قد قال ذلك، فأقبل عمر على علي وعباس، فقال: أنشدكما بالله هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك؟ قالا: نعم، قال: فإني أحدثكم عن هذا الأمر أن الله كان خص رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحداً غيره، فقال: { وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ }، إلى قوله: { قدير }، وكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما احتازها دونكم ولا استأثرها عليكم لقد أعطاكموها وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله، فعمل بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته، ثم توفي النبي صلى الله عليه وسلم, فقال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبضها أبو بكر رضي الله تعالى عنه فعمل بها بما عمل به فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم حينئذ جميع، وأقبل على علي وعباس: تذكران أن أبا بكر فعل فيه كما تقولان والله يعلم إنه فيها صادق بار راشد تابع للحق، ثم توفّى الله أبا بكر, فقلت: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فقبضتها سنتين من إمارتي أعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر والله يعلم أني فيه صادق بار راشد تابع للحق، ثم جئتماني كلاكما وكلمتكما واحدة، وأمركما جميع فقلت لكما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا صدقة" , فلما بدا لي أن أدفعه إليكما قلت: إن شئتما دفعته إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وبما عملت به فيها منذ وليتها، وإلا فلا تكلماني فيها، فقلتما ادفعها إلينا بذلك فدفعتها إليكما؟ أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك؟ فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما عنها فادفعاها إلي فإني أكفيكما.

قوله عزَّ وجلّ { مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ }، يعني من أموال كفار أهل القرى، قال ابن عباس: هي قريظة والنضير وفدك وخيبر وقرى عرينة، { فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيل }، قد ذكرنا في سورة الأنفال حكم الغنيمة وحكم الفيء. إن مال الفيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته يضعه حيث يشاء وكان ينفق منه على أهله نفقة سنتهم ويجعل ما بقي مجعل مال الله.

واختلف أهل العلم في مصرف الفيء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال قوم: هو للأئمة بعده.

وللشافعي فيه قولان: أحدهما - هو للمقاتلة، والثاني لمصالح المسلمين، ويبدأ بالمقاتلة ثم بالأهم فالأهم من المصالح.

واختلفوا في تخميس مال الفيء: فذهب بعضهم إلى أنه يخمَّس فخمسه لأهل خمس الغنيمة, وأربعة أخماسه للمقاتلة وللمصالح، وذهب الأكثرون إلى أنه لا يخمس بل مصرف جميعه واحد، ولجميع المسلمين فيه حق، قرأ عمر بن الخطاب: { مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ }، حتى بلغ: { لِلْفُقَرَآءِ ٱلْمُهَاجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ... وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ }، ثم قال: هذه استوعبت المسلمين عامة، وقال: ما على وجه الأرض مسلم إلا له في هذا الفيء حق إلا ما ملكت أيمانكم.

{ كَي لاَ يَكُونَ دُولَةً }، قرأ العامة بالياء، "دولة" نصب, أي: لكيلا يكون الفيء دولة، وقرأ أبو جعفر: "تكون" بالتاء "دولةٌ" بالرفع على اسم كان أي كيلا يكون الأمر إلى دولة، وجعل الكينونة بمعنى الوقوع وحينئذ لا خبر له. "والدُّوْلة" اسم للشىء الذي يتداوله القوم بنيهم، { بَيْنَ ٱلأَغْنِيَآءِ مِنْكُمْ }، يعني بين الرؤساء والأقوياء, فيغلبوا عليه الفقراء والضعفاء، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا اغتنموا غنيمة أخذ الرئيس ربعها لنفسه، وهو المرباع، ثم يصطفى منها بعد المرباع ما شاء، فجعله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم يقسمه فيما أمر به، ثم قال:

{ وَمَآ آتَاكُمْ }، أعطاكم، { ٱلرَّسُولُ }، من الفيء والغنيمة، { فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ }، من الغلول وغيره، { فَٱنتَهُوا }، وهذا نازل في أموال الفيء، وهو عام في كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ونهى عنه.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, عن محمد بن يوسف, حدثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتلفجات للحسن المغيرات خلق الله. فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب، فجاءت فقالت: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله تعالى؟ فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول: قال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أمَا قرأت: { وَمَآ ءَاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُوا } [الحشر: 7]؟ قالت: بلى، قال: فإنه قد نهى عنه.

{ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ العقابِ }، ثم بين من له الحق في الفيء فقال:

{ لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَـٰجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ وَأَمْوَٰلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً } رزقاً { مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰناً }، أي خرجوا إلى دار الهجرة طلباً لرضا الله عزّ وجلّ، { وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ }، في إيمانهم. قال قتادة: هؤلاء المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال والعشائر وخرجوا حباً لله ولرسوله، واختاروا الإسلام على ما كانوا فيه من شدة، حتى ذكر لنا أن الرجل كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها.

أخبرنا محمد بن الحسن المروزي, أخبرنا أبو العباس الطحان, أخبرنا أبو أحمد بن محمد بن قريش بن سليمان, أخبرنا علي بن عبد العزيز المكي, أخبرنا أبو عبيد القاسم بن سلام, حدثني عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن أبي إسحاق عن أمية بن خالد بن عبد الله بن أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يستفتح بصعاليك المهاجرين. قال أبو عبيد: هكذا قال عبد الرحمن وهو عندي أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد.

وروينا عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة، تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم، وذلك مقدار خمسمائة سنة" .