التفاسير

< >
عرض

ذَلِكَ أَمْرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً
٥
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَىٰ
٦
-الطلاق

معالم التنزيل

{ ذَلِكَ }، يعني ما ذكر من الأحكام، { أَمْرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَـٰتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً }.

{ أَسْكِنُوهُنَّ }، يعني مطلقات نسائكم { مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ }، "مِنْ" صلة, أي: أسكنوهن حيث سكنتم، { مِّن وُجْدِكُمْ }،يعني سعتكم وطاقتكم, يعني: إن كان موسراً يوسع عليها في المسكن والنفقة، وإن كان فقيراً فعلى قدر الطاقة، { وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ }، لا تؤذوهن، { لِتُضَيِّقُواْ عَلَيهِن }، مساكنهن فيخرجن، { وَإِن كُنَّ أُوْلَـٰتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ }، فيخرجن من عدتهن.

اعلم أن المعتدة الرجعية تستحق على الزوج النفقة والسكنى ما دامت في العدة. ونعني بالسكنى: مؤنة السكنى, فإن كانت الدار التي طلقها فيها ملكاً للزوج يجب على الزوج أن يخرج ويترك الدار لها مدة عدتها، وإن كانت بإجارة فعلى الزوج الأجرة, وإن كانت عارية فرجع المعير فعليه أن يكتري لها داراً تسكنها.

فأما المعتدة البائنة بالخلع أو بالطلقات الثلاث أو باللعان, فلها السكنى, حاملاً كانت أو حائلاً, عند أكثر أهل العلم.

روي عن ابن عباس أنه قال: لا سكنى لها إلا أن تكون حاملاً وهو قول الحسن وعطاء والشعبي.

واختلفوا في نفقتها: فذهب قوم إلى أنه لا نفقة لها إلا أن تكون حاملاً. روي ذلك عن ابن عباس وهو قول الحسن, وعطاء, والشعبي، وبه قال الشافعي, وأحمد.

ومنهم من أوجبها بكل حال, روي ذلك عن ابن مسعود، وهو قول إبراهيم النخعي, وبه قال الثوري وأصحاب الرأي.

وظاهر القرآن يدل على أنها لا تستحق إلا أن تكون حاملا,ً لأن الله تعالى قال: { وَإِن كُنَّ أُوْلَـٰتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيهِن }.

والدليل عليه من جهة السنة ما:

أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي, أخبرنا زاهر بن أحمد, أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي, أخبرنا أبو مصعب, عن مالك, عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان, عن أبي سلمة بن عبد الرحمن, عن فاطمة بنت قيس, " أن أبا عمرو بن حفص طلَّقها الْبَتَّةَ, وهو غائب بالشام, فأرسل إليها وكيلُه بشعير فَسَخِطَتْهُ، فقال: واللهِ مالك علينا من شيءٍ فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرتْ ذلك له، فقال لها: ليس لك عليه نفقة، وأمرها أن تعتد في بيت أم شَرِيكٍ، ثم قال: تلك امرأةٌ يغشاها أصحابي فاعتدِّي عند ابن أم مكتوم, فإنه رجل أعمى, تضعين ثيابك, فإذا حللتِ فآذِنِينِي قالت: فلما حَلَلْتُ ذكرتُ له أنَّ معاويةَ بنَ أبي سفيان وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصُعْلُوكٌ لا مال له, انكحي أسامة بن زيد, قالت: فَكَرِهْتُه، ثم قال: انكحي أسامة, فنكحتُه فجعلَ الله فيه خيراً واغتبطتُ به" .

واحتج من لم يجعل لها السكنى بحديث فاطمة بنت قيس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تعتد في بيت عمر بن أم مكتوم.

ولا حجة فيه, لما روي عن عائشة أنها قالت: كانت فاطمة في مكانٍ وَحْشٍ, فخيف على ناحيتها.

وقال سعيد بن المسيب: إنما نقلت فاطمة لطول لسانها على أحمائها, وكانت للسانها ذرابة.

أما المعتدة عن وطء الشبهة والمفسوخ نكاحها بعيب أو خيار عتق فلا سكنى لها ولا نفقة وإن كانت حاملاً.

والمعتدة عن وفاة الزوج لا نفقة لها حاملاً كانت أو حائلاً, عند أكثر أهل العلم, وروي عن علي رضي الله تعالى عنه أن لها النفقة, إن كانت حاملاً, من التركة حتى تضع، وهو قول شريح, والشعبي, والنخعي, والثوري.

واختلفوا في سكناها, وللشافعي رضي الله عنه فيه قولان: أحدهما لا سكنى لها, بل تعتد حيث تشاء، وهو قول علي, وابن عباس, وعائشة. وبه قال عطاء, والحسن, وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه.

والثاني: لها السكنى وهو قول عمر, وعثمان, وعبد الله بن مسعود, وعبد الله بن عمر، وبه قال مالك, وسفيان الثوري, وأحمد, وإسحاق.

واحتج من أوجب لها السكنى بما:

أخبرنا أبو الحسن السرخسي, أخبرنا زاهر بن أحمد, أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي, أخبرنا أبو مصعب عن مالك, عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة, عن عمته زينب بنت كعب: أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري أخبرتها: " أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة, فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم، فقتلوه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في منزل يملكه ولا نفقة؟ فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعيت له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف قلت؟ قالت: فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي، فقال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله. قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً. قالت: فلما كان عثمان أرسل إليّ فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به" .

فمن قال بهذا القول قال: إِذْنُهُ لفريعة أولاً بالرجوع إلى أهلها صار منسوخاً بقوله آخراً: "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله".

ومن لم يوجب السكنى قال: أمرها بالمكث في بيتها آخراً استحباباً لا وجوباً.

قوله عزّ وجلّ: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ }، أي أرضعن أولادكم، { فَـآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ }، على إرضاعهن، { وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ }، ليقبل بعضكم من بعض إذا أمره بالمعروف، قال الكسائي: شاوروا، قال مقاتل: بتراضي الأب والأم على أجر مسمى، والخطاب للزوجين جميعاً, يأمرهم أن يأتوا بالمعروف وبما هو الأحسن, ولا يقصدوا الضرار، { وَإِن تَعَاسَرْتُم }، في الرضاع والأجرة فأبى الزوج أن يعطي المرأة رضاها وأبت الأم أن ترضعه فليس له إكراهها على إرضاعه، ولكنه يستأجر للصبي مرضعاً غير أمه وذلك قوله: { فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى }.