التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١
قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَٱللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ
٢
وَإِذْ أَسَرَّ ٱلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ ٱللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَـٰذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْخَبِيرُ
٣
-التحريم

معالم التنزيل

{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }, وسبب نزولها ما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا عبيد الله بن إسماعيل, حدثنا أبو أسامة, عن هشام, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء ويحب العسل, وكان إذا صلى العصر جاز على نسائه فيدنو منهن, فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس, فسألتُ عن ذلك، فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عكة عسل فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها شربة, فقلت: أما والله لنحتالنَّ له, فذكرتُ ذلك لسودة، وقلت إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له: يا رسول الله أكلتَ مغافير؟ فإنه سيقول: لا, فقولي له: ما هذه الريح وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح, فإنه سيقول: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي له: جرست نحلُه العرفط، وسأقول ذلك وقوليه أنت يا صفية، فلما دخل على سودة, تقول سودة: والله الذي لا إله إلا هو لقد كدت أن أباديه بالذي قلت لي وإنه لعلى الباب, فرقاً منك، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله أكلت مغافير؟ قال: لا, قلت: فما بال هذه الريح! قال:سقتني حفصة شربة عسل, قالت: جرست نحله العرفط، فلما دخل عليّ قلت له مثل ذلك، ودخل على صفية فقالت له مثل ذلك، فلما دخل على حفصة قالت له: يا رسول الله ألا أسقيك منه قال: لا حاجة لي به, قالت: تقول سودة: سبحان الله لقد حرمناه، قالت: قلت لها اسكتي" .

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا الحسن بن محمد الصَّبَّاح, حدثنا الحجاج عن ابن جريج قال: زعم عطاء أنه سمع عبيد بن عمير يقول سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلاً فتواصيت أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير، فدخل على إحداهما فقالت له ذلك، فقال: لا بأس شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له" , فنزلت: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ } إلى قوله: { إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ } لعائشة وحفصة. { وَإِذَ أَسَرَّ ٱلنَّبِىُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِ حَدِيثاً } لقوله: بل شربت عسلاً.

وبهذا الإسناد قال: حدثنا محمد بن إسماعيل, أخبرنا إبراهيم بن موسى, أخبرنا هشام بن يوسف, عن ابن جريج, عن عطاء بإسناده وقال: قال: "لا ولكن كنت أشرب عسلاً عند زينب بنت جحش فلن أعود له، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحداً" يبتغي بذلك مرضات أزواجه.

وقال المفسرون: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه، فلما كان يوم حفصة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة أبيها فأذن لها، فلما خرجت أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جاريته مارية القبطية فأدخلها بيت حفصة، فوقع عليها فلما رجعت حفصة وجدت الباب مغلقاً، فجلست عند الباب فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يقطر عرقاً، وحفصة تبكي فقال: ما يبكيك؟ فقالت: إنما أذنت لي من أجل هذا, أدخلت أَمَتَكَ بيتي، ثم وقعت عليها في يومي وعلى فراشي, أما رأيت لي حرمة وحقاً؟ ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليست هي جاريتي أحلها الله لي؟ اسكتي فهي حرام عليّ ألتمس بذاك رضاك، فلا تخبري بذلك امرأة منهن. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة فقالت: ألا أبشرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم عليه أمته مارية، وقد أراحنا الله منها, وأخبرت عائشة بما رأت, وكانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فغضبت عائشة فلم تزل بنبي الله صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقربها، فأنزل الله عزّ وجلّ: { يَا أيُّهَا النَّبِي لِمَ تُحرمُ مَا أحلّ الله لك } يعني العسل ومارية { تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رحيمٌ } وأمره أن يكفر يمينه ويراجع أمته" ، فقال:

{ قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَـٰنِكُمْ }، أي بيّن وأوجب أن تكفروها إذا حنثتم وهي ما ذكر في سورة المائدة { وَٱللَّهُ مَوْلاَكُمْ }، وليكم ونصاركم، { وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ الحَكِيمُ }.

واختلف أهل العلم في لفظ التحريم، فقال قوم: ليس هو بيمين, فإن قال لزوجته: أنت عليّ حرام, أو حرمتك, فإن نوى به طلاقاً فهو طلاق، وإن نوى به ظهاراً فظهار. وإن نوى تحريم ذاتها أو أطلق فعليه كفارة اليمين بنفس اللفظ. وإن قال ذلك لجاريته فإن نوى عتقاً عتقت، وإن نوى تحريم ذاتها أو أطلق فعليه كفارة اليمين، وإن قال لطعام: حرَّمْتُه على نفسي فلا شيء عليه، وهذا قول ابن مسعود وإليه ذهب الشافعي.

وذهب جماعة إلى أنه يمين، فإن قال ذلك لزوجته أو جاريته فلا تجب عليه الكفارة ما لم يقربها، كما لو حلف أن لا يطأها. وإن حرَّم طعاماً فهو كما لو حلف أن لا يأكله, فلا كفارة عليه ما لم يأكل، يروى ذلك عن أبي بكر, وعائشة، وبه قال الأوزاعي, وأبو حنيفة رضي الله عنه:

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا معاذ بن فضالة, حدثنا هشام عن يحيى, عن ابن حكيم, وهو يعلى بن حكيم, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال في الحرام: يُكَفَّر، وقال ابن عباس: { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب: 21].

{ وَإِذَ أَسَرَّ ٱلنَّبِىُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِ حَدِيثاً }، وهو تحريم فتاته على نفسه، وقوله لحفصة: لا تخبري بذلك أحداً.

وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: أسرَّ أمر الخلافة بعده فحدثت به حفصة. قال الكلبي: أسر إليها أن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتين على أمتي من بعدي. وقال ميمون بن مهران: أسر إليها أن أبا بكر خليفتي من بعدي.

{ فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ }، أخبرت به حفصة عائشة، { وَأَظْهَرَهُ ٱللَّهُ عَلَيه }، أي أطلع الله تعالى نبيه على أنها أنبأت به، { عَرَّفَ بَعضَهُ }، قرأ عبد الرحمن السلمي والكسائي: "عَرَفَ" بتخفيف الراء, أي: عرف بعض الفعل الذي فعلته من إفشاء سره، أي: غضب من ذلك عليها وجازاها به، من قول القائل لمن أساء إليه: لأعرفنَّ لك ما فعلتَ، أي لأجازينَّك عليه، وجازاها به عليه بأن طلقها, فلما بلغ ذلك عمر قال: لو كان في آل الخطاب خير لما طلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاء جبريل وأمره بمراجعتها. فاعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه شهراً وقعد في مشربة أم إبراهيم مارية، حتى نزلت آية التخيير.

وقال مقاتل بن حيان: لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة وإنما هم بطلاقها فأتاه جبريل عليه السلام، وقال: لا تطلقها فإنها صوامة قوامة وإنها من جملة نسائك في الجنة، فلم يطلقها.

وقرأ الآخرون "عرّف" بالتشديد, أي عرَّف حفصة بعد ذلك الحديث، أي أخبرها ببعض القول الذي كان منها.

{ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ }، يعني لم يعرفها إياه، ولم يخبرها به. قال الحسن: ما استقصى كريم قط، قال الله تعالى: { عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ }, وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الكراهية في وجه حفصة أراد أن يتراضاها فأسر إليها شيئين: تحريم الأمة على نفسه, وتبشيرها بأن الخلافة بعده في أبي بكر وفي أبيها عمر رضي الله عنهما، فأخبرت به حفصة عائشة وأطلع الله تعالى نبيه عليه، عرف بعضه حفصة وأخبرها ببعض ما أخبرت به عائشة وهو تحريم الأمة, وأعرض عن بعضٍ يعني ذكر الخلافة، كره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتشر ذلك في الناس، { فَلَمَّا نَبَّأَهَا به }، أي أخبر حفصة بما أظهره الله عليه، { قالت }، حفصة، { مَنْ أَنبَأَكَ هذا }، أي: من أخبرك بأني أفشيت السر؟ { قَالَ نَبَّأَنِىَ ٱلْعَلِيمُ الخَبِيرُ }.