التفاسير

< >
عرض

إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ
٤
عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً
٥
-التحريم

معالم التنزيل

{ إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ } أي من التعاون على النبي صلى الله عليه وسلم بالإيذاء. يخاطب عائشة وحفصة, { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا }، أي زاغت ومالت عن الحق واستوجبتما التوبة. قال ابن زيد: مالت قلوبهما بأن سرهما ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا أبو اليمان, أخبرنا شعيب عن الزهري, أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن عبد الله بن عباس قال: لم أزل حريصاً على أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى لهما: { إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا }، حتى حج وحججت معه, وعدل وعدلت معه بإداوة, فتبرَّز ثم جاء، فسكبت على يديه منها، فتوضأ, فقلت له: يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله عزّ وجلّ لهما: { إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا }؟ فقال: واعجباً لك يا ابن عباس هما عائشة وحفصة.

ثم استقبل عمر الحديث يسوقه فقال: إني كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد, وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على النبي صلى الله عليه وسلم فينزل يوماً وأنزل يوماً, فإذا نزلت جئته بما حدث من خبر ذلك اليوم من الوحي أو غيره, وإذا نزل فعل مثل ذلك.

وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار فصخبت على امرأتي فراجعتني فأنكرتُ أن تراجعني، فقالت: ولِمَ تنكر أن أراجعك! فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل. فأفزعني وقلت: خابت من فعلت منهن.

ثم جمعت علي ثيابي فنزلت فدخلت على حفصة، فقلت لها: أيْ حفصة أتغاضبُ إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل؟ قالت: نعم، فقلت: خبتِ وخسرتِ، أفتأمنين أن يغضب الله تعالى لغضب رسوله فتهلكي, لا تستكثري للنبي صلى الله عليه وسلم ولا تراجعيه في شيء، ولا تهجريه وسليني ما بدا لك، ولا يغرنَّك أَن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم - يريد عائشة -.

قال عمر: وكنا تحدثنا أن غسان تنغل الخيل لتغزونا فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته، فرجع إلينا عشاء فضرب بابي ضرباً شديداً وقال: أثمَّ هو؟

ففزعت فخرجت إليه فقال: حدث اليوم أمر عظيم؟ فقلت: ما هو أجاء غسان! قال: لا بل أعظم منه وأهول, طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، فقلت: قد خابت حفصة وخسرت كنت أظن أن هذا يوشك أن يكون.

فجمعت عليّ ثيابي وصليت صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مشربة له فاعتزل فيها فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي، فقلت: ما يبكيك ألم أكن حذرتك؟ أطلقكن النبي صلى الله عليه وسلم؟

قالت: لا أدري ها هو ذا معتزل في المشربة، فجئت المنبر فإذا حوله رهط يبكي بعضهم، فجلست معهم قليلاً ثم غلبني ما أجد، فجئت المشربة التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم فقلت لغلام له أسود: استأذِنْ لعمر، فدخل فكلم النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع فقال: كلمت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرتك له فصمت، فانصرفت حتى جلست مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد فجئت إلى الغلام فقلت: استأذن فاستأذن ثم رجع إليّ فقال: قد ذكرتك له فصمت، فرجعت فجلست مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد فجئت الغلام فقلت: استأذن لعمر، فاستأذن ثم رجع إليّ فقال: قد ذكرتك له فصمت.

فلما وليت منصرفاً فإذا الغلام يدعوني، فقال: قد أذن لك النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش، قد أثّر الرمال بجنبه متكئاً على وسادة من أدم حشوها ليف، فسلمت عليه ثم قلت وأنا قائم: يا رسول الله أطلقتَ نساءك؟ فرفع إلي بصره فقال: لا، فقلت: الله أكبر، ثم قلت وأنا قائم: أستأنس يا رسول الله لو رأيتني، وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قلت: يا رسول الله لو رأيتني، ودخلت على حفصة فقلت لها: لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم - يريد عائشة - فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم تبسمة أخرى، فجلست حين رأيته يبتسم فرفعت بصري في بيته, فوالله ما رأيت فيه شيئاً يرد البصر غير أهبة ثلاثة، فقلت: يا رسول الله ادع الله فليوسِّع على أمتك فإن فارس والروم قد وسّع عليهم وأعطوا من الدنيا وهم لا يعبدون الله.

فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً فقال: "أوَفي هذا أنت يا ابن الخطاب؟ إن أولئك قوم عُجلوا طيباتهم في الحياة الدنيا" .

فقلت: يا رسول الله استغفر لي.

فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم، نساءه من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة إلى عائشة تسعاً وعشرين ليلة، وكان يقول: ما أنا بداخل عليهن شهراً - من شدة موجدته عليهن حين عاتبه الله عز وجل.

فلما مضت تسعاً وعشرون ليلة، دخل على عائشة رضي الله عنها فبدأ بها، فقالت له عائشة: يا رسول الله إنك كنت أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً وإنما أصبحت من تسع وعشرين ليلة أعدّها عداً! فقال: الشهر تسع وعشرون، وكان ذلك الشهر تعساً وعشرين ليلة.

قالت عائشة: ثم أنزل الله التخيير فبدأ بي أول امرأة من نسائه، فاخترته, ثم خير نساءه كلهن فقلن مثل ما قالت عائشة.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو اليمان, أخبرنا شعيب عن الزهري, أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن "أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله تعالى أن يخير أزواجه فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تعجلي بالجواب حتى تستأمري أبويك، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه قالت ثم قال إن الله قال: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لأَزْوَٰجِكَ } إلى تمام الآيتين، فقلت: أوَفي هذا أستأمر أبويَّ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة" .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر, أخبرنا عبد الغافر بن محمد, أخبرنا محمد بن عيسى, حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان, حدثنا مسلم بن الحجاج, حدثني زهير بن حرب, حدثنا عمر بن يونس الحنفي, حدثنا عكرمة بن عمار, عن سماك [بن زميل] حدثنا عبد الله بن عباس, حدثني عمر بن الخطاب قال: لما اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه وذكر الحديث. وقال: دخلت عليه فقلت: يا رسول الله ما يشق عليك من شأن النساء؟ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك. وقلما تكلمت - وأحمد الله تعالى - بكلام إلا رجوت أن الله يصدق قولي الذي أقول، ونزلت هذه الآية: { عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَٰجاً خَيْراً مِّنكُنَّ }. { وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ مَوْلَـٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَـٰلِحُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَـٰئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِير }.

قوله: { وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيه }، أي تتظاهرا أو تتعاونا على أذى النبي صلى الله عليه وسلم، قرأ أهل الكوفة بتخفيف الظاء، والآخرون بتشديدها.

{ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَـٰهُ }، أي وليه وناصره: { وَجِبْرِيلُ وَصَـٰلِحُ ٱلمُؤْمِنَين }، روي عن ابن مسعود وأبيّ بن كعب: { وَصَـٰلِحُ ٱلمُؤْمِنين }, أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وقال الكلبي: هم المخلصون الذين ليسوا بمنافقين. { وَالْمَلَـٰئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ }، قال مقاتل: بعد الله وجبريل { وَصَـٰلِحُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَـٰئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِير }، أي: أعوان للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من الواحد الذي يؤدي عن الجمع، كقوله: { { وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً } [النساء: 69].

{ عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ }، أي: واجبٌ من الله إن طلقكن رسولُه، { أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَٰجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مسلِمَاتٍ }، خاضعات لله بالطاعة، { مؤمناتٍ }، مصدقات بتوحيد الله، { قانتاتٍ }، طائعات، وقيل: داعيات. وقيل: مصليات، { تَـٰئِبَـٰتٍ عَـٰبِدَٰتٍ سَـٰئِحَـٰت }، صائمات، وقال زيد بن أسلم: مهاجرات وقيل: يسحن معه حيث ما ساح { ثَيِّبَـٰتٍ وأبْكَاراً }، وهذا في الإخبار عن القدرة لا عن الكون لأنه قال: "إِن طلقكن" وقد علم أنه لا يطلقهن وهذا كقوله: { { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أمْثَالَكُمْ } [محمد: 38]، وهذا الإخبار عن القدرة لأنه ليس في الوجود أمة خير من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.