التفاسير

< >
عرض

وَسُيِّرَتِ ٱلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً
٢٠
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً
٢١
لِّلطَّاغِينَ مَآباً
٢٢
لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً
٢٣
لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً
٢٤
إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً
٢٥
جَزَآءً وِفَاقاً
٢٦
إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً
٢٧
وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً
٢٨
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً
٢٩
فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً
٣٠
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً
٣١
حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً
٣٢
وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً
٣٣
وَكَأْساً دِهَاقاً
٣٤
لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً
٣٥
جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً
٣٦
رَّبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ٱلرَّحْمَـٰنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً
٣٧
يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلاَئِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَاباً
٣٨
ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلْحَقُّ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ مَآباً
٣٩
إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ ٱلْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ ٱلْكَافِرُ يٰلَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً
٤٠
-النبأ

معالم التنزيل

{ وَسُيِّرَتِ ٱلْجِبَالُ }، عن وجه الأرض، { فَكَانَتْ سَرَاباً }, أي هباءً منبثاً لعين الناظر كالسراب.

{ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً }, طريقاً وممراً فلا سبيل لأحد إلى الجنة حتى يقطع النار.

وقيل: "كانت مرصاداً" أي: معدة لهم، يقال: أرصدت له الشيء إذا أعددته له.

وقيل: هو من رصدت الشيء أرصده إذا ترقبته. "والمرصاد": المكان الذي يرصد الراصد فيه العدو. وقوله: { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً }، أي ترصد الكفار.

وروى مقسم عن ابن عباس: أن على جسر جهنم سبعة محابس يسأل العبد عند أولها عن شهادة أن لا إله إلا الله, فإن أجابها تامة جاز إلى الثاني، فيسأل عن الصلاة, فإن أجابها تامة جاز إلى الثالث، فيسأل عن الزكاة, فإن أجابها تامة جاز إلى الرابع، فيسأل عن الصوم فإن جاء به تاماً جاز إلى الخامس، فيسأل عن الحج فإن جاء به تاماً جاز إلى السادس، فيسأل عن العمرة فإن أجابها تامة جاز إلى السابع، فيسأل عن المظالم فإن خرج منها وإلا يقال: انظروا فإن كان له تطوع أكمل بها أعماله، فإذا فرغ منه انطلق به إلى الجنة.

{ لِّلطَّاغِينَ }، للكافرين، { مَآباً }، مرجعاً يرجعون إليه.

{ لَّـٰبِثِينَ }، قرأ حمزة ويعقوب: "لَبِثيْنَ" بغير ألف، وقرأ العامة: "لابثين" بالألف وهما لغتان. { فِيهَآ أَحْقَاباً }، جمع حُقب، والحُقب الواحد: ثمانون سنة، كل سنة اثنا عشر شهراً، كل شهر ثلاثون يوماً، كل يوم ألف سنة. روي ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وقال مجاهد: "الأحقاب" ثلاثة وأربعون حقباً، كل حقب سبعون خريفاً، كل خريف سبعمائة سنة، كل سنة ثلاثمائة وستون يوماً، وكل يوم ألف سنة.

قال الحسن: إن الله لم يجعل لأهل النار مدة، بل قال: { لَّـٰبِثِينَ فِيهَآ أَحْقاباً } فوالله ما هو إلا إذا مضى حقب دخل آخر ثم آخر إلى الأبد، فليس للأحقاب عدة إلا الخلود.

روى السدي عن مُرَّة عن عبد الله قال: لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا، ولو علم أهل الجنة أنهم يلبثون في الجنة عدد حصى الدنيا لحزنوا.

وقال مقاتل بن حيان: الحقب الواحد سبع عشرة ألف سنة. قال: وهذه الآية منسوخة نسختها { فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عذاباً } يعني أن العدد قد ارتفع والخلود قد حصل.

{ لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً }، رُوي عن ابن عباس: أن البرد النوم، ومثله قال الكسائي و قال أبو عبيدة، تقول العرب: منع البردُ البردَ أي أذهب البرد النوم. وقال الحسن وعطاء: { لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً } أي: روحاً وراحة. وقال مقاتل: { لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً } ينفعهم من حر, { وَلاَ شَرَاباً } ينفعهم من عطش.

{ إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً }، قال ابن عباس: "الغساق" الزمهرير يحرقهم ببرده. وقيل: صديد أهل النار، وقد ذكرناه في سورة "ص".

{ جَزَآءً وِفَـٰقاً }، أي جزيناهم جزاء وافق أعمالهم. وقال مقاتل: وافق العذاب الذنب, فلا ذنب أعظم من الشرك, ولا عذاب أعظم من النار.

{ إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً }، لا يخافون أن يحاسبوا، والمعنى: أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث ولا بأنهم محاسبون.

{ وَكَذَّبُواْ بِـآيَـٰتِنَا }، أي بما جاءت به الأنبياء، { كِذَّاباً }، يعني تكذيباً، قال الفراء: هي لغة يمانية فصيحة، يقولون في مصدر التفعيل فِعَّال وقال: قال لي أعرابي منهم على المروة يستفتيني: الحلق أحب إليك أم القِصَّار؟.

{ وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَـٰهُ كِتَـٰباً }، أي وكل شيء من الأعمال بيَّناه في اللوح المحفوظ، كقوله: { { وَكُلَّ شىْءٍ أَحْصَيْنَـٰهُ فِىۤ إمامٍ مُبِين } [يس: 12].

{ فَذُوقُواْ }، أي يقال لهم: فذوقوا، { فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً }.

قوله عزّ وجلّ: { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً }، فوزاً ونجاةً من النار، وقال الضحاك: متنزهاً.

{ حَدَآئِقَ وَأَعْنَـٰباً }، يريد أشجار الجنة وثمارها.

{ وَكَوَاعِبَ }، جواري نواهد قد تكعبت ثُدِيُّهُنَّ، واحدتها كاعب، { أَتْرَابَاً }، مستويات في السن.

{ وَكَأْساً دِهَاقاً }، قال ابن عباس والحسن وقتادة وابن زيد: مترعة مملوءة. وقال سعيد بن جبير ومجاهد: متتابعة. قال عكرمة: صافية.

{ لاَّ يَسْمَعُونَ فيها لَغْواً }، باطلاً من الكلام، { وَلاَ كِذَٰباً }، تكذيباً، لا يكذب بعضهم بعضاً. وقرأ الكسائي "كذاباً"، بالتخفيف مصدر كاذب كالمكاذبة، وقيل: هو الكذب. وقيل: هو بمعنى التكذيب كالمشدد.

{ جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً }، أي جازاهم جزاءً وأعطاهم عطاءً "حساباً" أي: كافياً وافياً، يقال: أحسبت فلاناً, أي أعطيته ما يكفيه حتى قال حسبي. وقال ابن قتيبة: "عطاءً حساباً" أي كثيراً. وقيل: هو جزاء بقدر أعمالهم.

{ رَّبِّ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ٱلرَّحْمَـٰنِ }، قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو: "ربُّ" رفع على الاستئناف و "الرحمن" خبره. وقرأ الآخرون بالجر اتباعاً لقوله: "من ربك" وقرأ ابن عامر, وعاصم, ويعقوب: "الرحمنِ" جراً اتباعاً لقوله: { رَّبِّ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ }، وقرأ الآخرون بالرفع، فحمزة والكسائي يقرآن "ربِّ" بالخفض لقربه من قوله: "جزاءً من ربك" ويقرآن "الرحمنُ" بالرفع لبعده منه على الاستئناف، وقوله: { لاَ يَملكون } في موضع رفع خبره.

ومعنى: { لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً }، قال مقاتل: لا يقدر الخلق على أن يكلموا الرب إلا بإذنه. وقال الكلبي: لا يملكون شفاعة إلا بإذنه.

{ يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ }، أي في ذلك اليوم، { وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ صَفّاً }، واختلفوا في هذا الروح، قال الشعبي والضحاك: هو جبريل.

وقال عطاء عن ابن عباس: "الروح" ملك من الملائكة ما خلق الله مخلوقاً أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام وحده صفاً وقامت الملائكة كلهم صفاً واحداً، فيكون عظم خلقه مثلهم.

وعن ابن مسعود قال: الروح ملك أعظم من السموات ومن الجبال، ومن الملائكة وهو في السماء الرابعة، يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة، يُخلق من كل تسبيحة ملك يجيء يوم القيامة صفاً وحده.

وقال مجاهد, وقتادة, وأبو صالح: "الروح" خلق على صورة بني آدم وليسوا بناس يقومون صفاً والملائكة صفاً، هؤلاء جند وهؤلاء جند.

وروى مجاهد عن ابن عباس قال: هم خلق على صورة بني آدم وما ينزل من السماء ملك إلا معه واحد منهم.

وقال الحسن: هم بنو آدم. ورواه قتادة عن ابن عباس، وقال: هذا مما كان يكتمه ابن عباس.

{ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ صَفّاً } قال الشعبي: هما سماطا ربِّ العالمين، يوم يقوم سماط من الروح وسماط من الملائكة.

{ لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَاباً }، في الدنيا، أي حقاً. وقيل: قال: لا إله إلا الله.

{ ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلْحَقُّ }، الكائن الواقع يعني يوم القيامة، { فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ مَآباً }، مرجعاً وسبيلاً بطاعته، أي: فمن شاء رجع إلى الله بطاعته.

{ إِنَّآ أَنذَرْنَـٰكُمْ عَذَاباً قَرِيباً }، يعني العذاب في الآخرة، وكل ما هو آت قريب. { يَوْمَ يَنظُرُ ٱلْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ }، أي كل امرئ يرى في ذلك اليوم ما قدم من العمل مثبتاً في صحيفته، { وَيَقُولُ ٱلْكَافِرُ يَـٰلَيْتَنِى كُنتُ تُراباً }.

قال عبد الله بن عمرو: إذا كان يوم القيامة مُدت الأرض مدّ الأديم، وحشرت الدواب والبهائم والوحوش، ثم يجعل القصاص بين البهائم حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء تنطحها، فإذا فرغ من القصاص قيل لها: كوني تراباً، فعند ذلك يقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً. ومثله عن مجاهد.

وقال مقاتل: يجمع الله الوحوش والهوام والطير فيقضي بينهم حتى يُقتصَ للجماء من القرناء، ثم يقول لهم: أنا خلقتكم وسخرتكم لبني آدم وكنتم مطيعين إياهم أيام حياتكم، فارجعوا إلى الذي كنتم, كونوا تراباً, فإذا التفت الكافر إلى شيء صار تراباً, يتمنى فيقول: يا ليتني كنت في الدنيا في صورة خنزير وكنت اليوم تراباً.

وعن أبي الزناد عبد الله بن ذكوان قال: إذا قضى الله بين الناس وأمر أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، وقيل لسائر الأمم ولمؤمني الجن عودوا تراباً فيعودون تراباً, فحينئذ يقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً. وبه قال ليث بن أبي سُليم، مؤمنوا الجن يعودون تراباً.

وقيل: إن الكافر ها هنا إبليس، وذلك أنه عاب آدم وأنه خلق من التراب وافتخر بأنه خلق من النار، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه المؤمنون من الثواب والرحمة، وما هو فيه من الشدة والعذاب، قال: يا ليتني كنت تراباً. قال أبو هريرة فيقول: التراب لا, ولا كرامة لك, من جعلك مثلي؟.