التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّيلِ إِذَا يَسْرِ
٤
هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ
٥
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ
٦
إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ
٧
ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ
٨
وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ
٩
وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ
١٠
-الفجر

معالم التنزيل

{ وَٱلَّيْلِ إِذَا يَسْرِ }، أي إذا سار وذهب كما قال تعالى: { { وَٱللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ } [المدثر: 33]، وقال قتادة: إذا جاء وأقبل, وأراد كل ليلة.

وقال مجاهد وعكرمة والكلبي: هي ليلة المزدلفة.

قرأ أهل الحجاز, والبصرة: "يسري" بالياء في الوصل, ويقف ابن كثير ويعقوب بالياء أيضاً، والباقون يحذفونها في الحالين، فمن حذف فلِوِفَاق رؤوس الآي، ومن أثبت فلأنها لام الفعل، والفعل لا يحذف منه في الوقف. نحو قوله: هو يقضي وأنا أقضي، وسئل الأخفش عن العلة في سقوط الياء؟ فقال: الليل لا يسري, ولكن يسرى فيه، فهو مصروف, فلما صرفه بخسه حقه من الإعراب، كقوله: { وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً }، ولم يقل: "بغية" لأنها صرفت من باغية.

{ هَلْ فِي ذَلِكَ }أي فيما ذكرت، { قَسَمٌ }، أي: مقنع ومكتفى في القسم، { لِّذِي حِجْرٍ }، لذي عقل, سمي بذلك لأنه يحجر صاحبه عمّا لا يحل ولا ينبغي، كما يسمى عقلاً, لأنه يعقله عن القبائح، ونُهَى لأنه ينهى عما لا ينبغي، وأصل "الحَجْر": المنع. وجواب القسم قوله: { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ }، واعترض بين القسم وجوابه قوله عزّ وجلّ:

{ أَلَمْ تَرَ }، قال الفرَّاء: ألم تُخْبَر؟ وقال الزجَّاج: ألم تعلم؟ ومعناه التعجب. { كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إرَمَ }، يخوِّف أهل مكة, يعني: كيف أهلكهم، وهم كانوا أطول أعماراً وأشد قوة من هؤلاء، واختلفوا في إرم ذات العماد, فقال سعيد بن المسيب: "إرم ذات العماد" دمشق، وبه قال عكرمة.

وقال القرظي هي الإسكندرية، وقال مجاهد: هي أمَّة. وقيل: معناها: القديمة.

وقال قتادة, ومقاتل: هم قبيلة من عاد قال مقاتل: كان فيهم الملك, وكانوا بمَهَرَة, وكان عاد أباهم, فنسبهم إليه, وهو إرم بن سام بن نوح.

وقال محمد بن إسحاق: هو جد عاد, وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح.

وقال الكلبي: "إرم" هو الذي يجتمع إليه نسب عاد وثمود وأهل الجزيرة، كان يقال: عاد إرم, وثمود إرم، فأهلك الله عاداً ثم ثمود, وبقي أهل السواد والجزيرة، وكانوا أهل عُمُدٍ وخيام وماشية سيارة في الربيع، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم، وكانوا أهل جنان وزروع, ومنازلهم بوادي القرى، وهي التي يقول الله فيها:

{ ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلَـٰدِ }، وسموا ذات العماد لهذا لأنهم كانوا أهل عمد سيارة، وهو قول قتادة ومجاهد والكلبي، ورواية عطاء عن ابن عباس، وقال بعضهم: سموا ذلك العماد لطول قامتهم. قال ابن عباس: يعني طولهم مثل العماد. وقال مقاتل: كان طول أحدهم اثني عشر ذراعاً.

وقوله: { لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلَـٰدِ }، أي لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول والقوة، وهم الذين قالوا: { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوة }.

وقيل: سموا ذات العماد لبناء بناه بعضهم فشيد عمده، ورفع بناءه، يقال: بناه شداد بن عاد على صفة لم يخلق في الدنيا مثله, وسار إليه في قومه، فلما كان منه على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليه وعلى من معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعاً.

{ وَثَمُودَ }، أي: وبثمود, { ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ }، قطعوا الحجر، واحدتها: صخرة, { بـٱلْوَادِ }، يعني: وادي القُرى كانوا يقطعون الجبال فيجعلون فيها بيوتاً، وأثبت ابن كثير ويعقوب الياء في الوادي وصلاً ووقفاً على الأصل، وأثبتها ورش وصلاً، والآخرون بحذفها في الحالين على وفق رؤوس الآي.

{ وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ }، سمي بذلك لأنه كان يعذب الناس بالأوتاد، وقد ذكرناه في سورة ص.

أخبرنا أبو سعيد الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرنا ابن فنجويه, حدثنا مخلد بن جعفر, حدثنا الحسين بن علويه, حدثنا إسماعيل بن عيسى, حدثنا إسحاق بن بشر عن ابن سمعان عن عطاء عن ابن عباس: أن فرعون إنما سُمي "ذي الأوتاد" لأنه كانت امرأة، وهي امرأة خازن فرعون حزبيل، وكان مؤمناً كتم إيمانه مائة سنة، وكانت امرأته ماشطة بنت فرعون, فبينما هي ذات يوم تمشط رأس بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها، فقالت: تعس مَنْ كفر بالله، فقالت بنت فرعون: وهل لك من إلهٍ غير أبي؟ فقالت: إلهي وإله أبيك وإله السموات والأرض واحد لا شريك له، فقامت فدخلت على أبيها وهي تبكي، فقال: ما يبكيك؟ قالت: الماشطة امرأة خازنك تزعم أن إلهك وإلهها وإله السموات والأرض واحد لا شريك له. فأرسل إليها فسألها عن ذلك، فقالت: صدقتْ، فقال لها: ويحك اكفري بإلهك وأقرِّي بأني إلهك، قالت: لا أفعل فمدَّها بين أربعة أوتاد, ثم أرسل عليها الحيات والعقارب، وقال لها: اكفري بإلهك وإلاّ عذبتك بهذا العذاب شهرين، فقالت له: ولو عذبتني سبعين شهراً ما كفرت بالله، وكان لها ابنتان فجاء بابنتها الكبرى فذبحها على قرب منها، وقال لها: اكفري بالله وإلا ذبحت الصغرى على قلبك، وكانت رضيعاً، فقالت: لو ذبحت من على وجه الأرض على فيَّ ما كفرت بالله عزّ وجلّ، فأتى بابنتها الصغرى فلما اضطجعت على صدرها وأرادوا ذبحها جزعت المرأة, فأطلق الله لسان ابنتها فتكلمت, وهي من الأربعة الذين تكلموا أطفالاً، وقالت: يا أماه لا تجزعي فإن الله قد بنى لك بيتاً في الجنة، اصبري فإنك تُفْضِين إلى رحمة الله وكرامته، فذبحت فلم تلبث أن ماتت فأسكنها الله الجنة, قال: وبعث في طلب زوجها حزبيل فلم يقدروا عليه، فقيل لفرعون: إنه قد رُئِيَ في موضع كذا وكذا في جبل كذا، فبعث رجلين في طلبه فانتهيا إليه وهو يصلي ويليه صفوف من الوحوش خلفه يصلون، فلما رأيا ذلك انصرفا، فقال حزبيل: اللهم إنك تعلم أني كتمت إيماني مائة سنة, ولم يظهر عليَّ أحد, فأيما هذين الرجلين كتم عليّ فاهده إلى دينك وأعطه من الدنيا سُؤْله، وأيما هذين الرجلين أظهر عليَّ فعجّل عقوبته في الدنيا واجعل مصيره في الآخرة إلى النار، فانصرف الرجلان إلى فرعون فأما أحدهما فاعتبر وآمن، وأما الآخر فأخبر فرعون بالقصة على رؤوس الملاء، فقال له فرعون: وهل كان معك غيرك؟ قال: نعم فلان، فدعا به فقال: أحقٌّ ما يقول هذا؟ قال: لا, ما رأيت مما قال شيئاً فأعطاه فرعون وأجزل, وأما الآخر فقتله، ثم صلبه.

قال: وكان فرعون قد تزوج امرأة من نساء بني إسرائيل يقال لها "آسية بنت مزاحم" فرأت ما صنع فرعون بالماشطة، فقالت: وكيف يسعني أن أصبر على ما يأتي فرعون, وأنا مسلمة وهو كافر؟ فبينما هي كذلك تؤامر نفسها إذ دخل عليها فرعون فجلس قريباً منها، فقالت: يا فرعون أنت شرُّ الخلق وأخبثهم عمدت إلى الماشطة فقتلتها، قال: فلعلّ بك الجنون الذي كان بها قالت ما بي من جنون، وإن إلهي وإلهها وإلهك وإله السموات والأرض واحد لا شريك له، فمزق عليها ثيابها وضربها وأرسل إلى أبويها فدعاهما، فقال لهما: ألا تريان أن الجنون الذي كان بالماشطة أصابها؟ قالت: أعوذ بالله من ذلك, إني أشهد أن ربي وربَّك وربَّ السموات والأرض واحدٌ لا شريك له، فقال لها أبوها: يا آسية ألستِ من خير نساء العماليق وزجك إله العماليق؟ قالت: أعوذ بالله من ذلك، إن كان ما يقول حقاً فقولا له أن يتوِّجني تاجاً تكون الشمس أمامه والقمر خلفه والكواكب حوله، فقال لهما فرعون: اخرجا عني، فمدَّها بين أربعة أوتاد يعذبها, ففتح الله لها باباً إلى الجنة ليهوِّن عليها ما يصنع بها فرعون، فعند ذلك قالت: { { رَبِّ ٱبْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى ٱلْجَنَّةِ وَنَجِّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِى مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَـٰلمِينَ } [التحريم: 11]، فقبض الله روحها وأسكنها الجنة.