التفاسير

< >
عرض

فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ
١٥
وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَهَانَنِ
١٦
كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ
١٧
وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ
١٨
وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً
١٩
وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبّاً جَمّاً
٢٠
كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ ٱلأَرْضُ دَكّاً دَكّاً
٢١
وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً
٢٢
وَجِيۤءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ
٢٣
يَقُولُ يٰلَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي
٢٤
فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ
٢٥
وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ
٢٦
يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ
٢٧
ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً
٢٨
-الفجر

معالم التنزيل

{ فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ }، امتحنه، { رَبُّهُ }، بالنعمة، { فَأَكْرَمَهُ }، بالمال، { وَنَعَّمَهُ }، بما وسع عليه، { فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ }، بما أعطاني.

{ وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلَـٰهُ }، بالفقر، { فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ }، قرأ أبو جعفر وابن عامر "فقدَّر" بتشديد الدال، وقرأ الآخرون بالتخفيف، وهما لغتان أي ضيّق عليه رزقه. وقيل: "قَدَر" بمعنى قتر وأعطاه قدر ما يكفيه. { فَيَقُولُ رَبِّيۤ أهاننِ }، أذلني بالفقر. وهذا يعني به الكافر, تكون الكرامة والهوان عنده بكثرة المال والحظ في الدنيا وقلَّتِه.

قال الكلبي ومقاتل: نزلت في أمية بن خلف الجمحي الكافر, فرد الله على من ظن أن سعة الرزق إكرامٌ وأن الفقر إهانة, فقال:

{ كَلاَّ } لم أَبْتَلِه بالغنى لكرامته, ولم أبتله بالفقر لهوانه، فأخبر أن الإكرام والإهانة لا تدور على المال وسعة الرزق، ولكن الفقر والغنى بتقديره, فيوسع على الكافر لا لكرامته، ويقدر على المؤمن لا لهوانه، إنما يكرم المرء بطاعته ويهينه بمعصيته.

قرأ أهل الحجاز والبصرة "أكرمني وأهانني"، بإثبات الياء في الوصل، ويقف ابن كثير ويعقوب بالياء أيضاً، والآخرون يحذفونها وصلاً ووقفاً.

{ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ }، قرأ أهل البصرة "يكرمون، ويحضون، ويأكلون، ويحبون" بالياء فيهن، وقرأ الآخرون بالتاء، { لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ } لا تحسنون إليه. وقيل: لا تعطونه حقه.

قال مقاتل: كان قدامة بن مظعون يتيماً في حجر أمية بن خلف وكان يدفعه عن حقه.

{ وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ }، أي لا تأمرون بإطعامه، وقرأ أبو جعفر وأهل الكوفة: "تَحَاضُّون" بفتح الحاء وألف بعدها, أي لا يحض بعضكم بعضاً عليه.

{ وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ }، أي الميراث، { أَكْلاً لَّمّاً }، شديداً وهو أن يأكل نصيبه ونصيب غيره، وذلك أنهم كانوا لا يُورِّثون النساء ولا الصبيان، ويأكلون نصيبهم.

قال ابن زيد: الأكل اللَّمُّ: الذي يأكل كل شيء يجده, لا يسأل عنه أحلال هو أم حرام؟ ويأكل الذي له ولغيره، يقال: لممت، على الخِوان إذا أتيت ما عليه فأكلته.

{ وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبّاً جَمّاً }, أي كثيراً, يعني: تحبون جمع المال وتولعون به، يقال: جمَّ الماءُ في الحوض, إذا كثر واجتمع.

{ كَلاَّ }، ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر. وقال مقاتل: أي لا يفعلون ما أمروا به من إكرام اليتيم وإطعام المسكين، ثم أخبر عن تلهفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم، فقال عزّ من قائل: { إِذَا دُكَّتِ ٱلأَرْضُ دَكّاً دَكّاً }، مرة بعد مرة, وكسر كل شيء على ظهرها من جبل وبناء وشجر, فلم يبق على ظهرها شيء.

{ وَجَآءَ رَبُّكَ }، قال الحسن: جاء أمره وقضاؤه. وقال الكلبي: ينزل { وَٱلْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً }، قال عطاء: يريد صفوف الملائكة، وأهل كل سماء صف على حدة. قال الضحاك: أهل كل سماء إذا نزلوا يوم القيامة كانوا صفاً محيطين بالأرض ومن فيها فيكون سبعة صفوف.

{ وَجِىۤءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ }، قال عبد الله بن مسعود ومقاتل في هذه الآية: جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يقودونها، لها تغيظ وزفير حتى تنصب على يسار العرش. { يَوْمَئِذٍ } يعني يوم يجاء بجهنم، { يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَـٰنُ }، يتعظ ويتوب الكافر، { وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ }، قال الزجَّاج: يظهر التوبة ومن أين له التوبة؟.

{ يَقُولُ يٰلَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى }، أي قدمت الخير والعمل الصالح لحياتي في الآخرة، أي لآخرتي التي لا موت فيها.

{ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ }، قرأ الكسائي ويعقوب "لا يُعَذَّب", "ولا يُوثَق" بفتح الذال والثاء على معنى لا يعذب أحدٌ في الدنيا كعذاب الله يومئذ، ولا يوثق كوثاقه أحد يومئذ.

قيل: هو رجل بعينه, هو أمية بن خلف, يعني لا يعذب كعذاب هذا الكافر أحد، ولا يوثق كوثاقه أحد.

وقرأ الآخرون بكسر الذال والثاء، أي: لا يعذب أحد في الدنيا كعذاب الله الكافر يومئذ، ولا يوثق كوثاقه أحد، يعني لا يبلغ أحد من الخلق كبلاغ الله في العذاب، والوثاق: وهو الإسار في السلاسل والأغلال.

قوله عزّ وجلّ: { يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ }، إلى ما وعد الله عزّ وجلّ المصدقة بما قال الله. وقال مجاهد: "المطمئنة" التي أيقنت أن الله تعالى ربها وصَبرت جأشاً لأمره وطاعته.

وقال الحسن: المؤمنة الموقنة. وقال عطية: الراضية بقضاء الله تعالى. وقال الكلبي: الأمنة من عذاب الله.

وقيل: المطمئنة بذكر الله، بيانه: قوله { وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ }.

واختلفوا في وقت هذه المقالة، فقال قوم: يقال لها ذلك عند الموت فيقال لها:

{ ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ } إلى الله، { رَاضِيَةً }، بالثواب، { مَّرْضِيَّةً }، عنك.

وقال الحسن: إذا أراد الله قبضها اطمأنت إلى الله ورضيت عن الله ورضي الله عنها.

قال عبد الله بن عمرو: إذا توفي العبد المؤمن أرسل الله عزّ وجلّ ملكين إليه وأرسل إليه بتحفة من الجنة، فيقال لها: اخرجي يا أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى رَوْح وريحان وربك عنك راضٍ، فتخرج كأطيب ريح مسك وجده أحد في أنفه، والملائكة على أرجاء السماء يقولون: قد جاء من الأرض روح طيبة ونسمة طيبة. فلا تمر بباب إلاّ فتح لها ولا بمَلَكٍ إلا صلّى عليها، حتى يُؤتى بها الرحمن فتسجد، ثم يقال لميكائيل: اذهب بهذه فاجعلها مع أنفس المؤمنين، ثم يؤمر فيوسع عليه قبره سبعون ذراعاً عرضه، وسبعون ذراعاً طوله، وينبذ له فيه الريحان، فإن كان معه شيء من القرآن كفاه نوره.

وإن لم يكن جعل له نوره مثل الشمس في قبره، ويكون مثله مثل العروس، ينام فلا يوقظه إلا أحب أهله إليه. وإذا توفي الكافر أرسل الله إليه ملكين وأرسل قطعة من بجاد أنتن من كل نتن وأخشن من كل خشن، فيقال: يا أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى جهنم وعذاب أليم وربك عليك غضبان.

وقال أبو صالح في قوله: { ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً }، قال: هذا عند خروجها من الدنيا, فإذا كان يوم القيامة قيل: { فَٱدْخُلِي فِي عِبَادِي * وَٱدْخُلِي جَنَّتِي }.

وقال آخرون: إنما يقال لها ذلك عند البعث يقال: ارجعي إلى ربك، أي إلى صاحبك وجسدك، فيأمر الله الأرواح أن ترجع إلى الأجساد، وهذا قول عكرمة, وعطاء, والضحاك، ورواية العوفي عن ابن عباس.

وقال الحسن: معناه: ارجعي إلى ثواب ربك وكرامته, راضيةً عن الله بما أعد لك, مرضيةً, رضي عنك ربك.