التفاسير

< >
عرض

أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ
٧
أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ
٨
وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ
٩
وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ
١٠
فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ
١١
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْعَقَبَةُ
١٢
فَكُّ رَقَبَةٍ
١٣
أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ
١٤
-البلد

معالم التنزيل

{ أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ }، قال سعيد بن جبير وقتادة: أيظن أن الله لم يره، ولا يسأله عن ماله من أين اكتسبه، وأين أنفقه؟

وقال الكلبي: إنه كان كاذباً في قوله أنفقت كذا وكذا، ولم يكن أنفق جميع ما قال, يقول أيظن أن الله عزّ وجلّ لم ير ذلك منه فيعلم مقدار نفقته. ثم ذكره نِعَمَه ليعتبر, فقال: { أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ }، قال قتادة: نِعَمُ الله متظاهرة يقررك بها كيما تشكر, وجاء في الحديث: "إن الله عزّ وجلّ يقول: ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق، وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقتين، فأطبق، وإن نازعك فرجك إلى ما حرمت عليك فقد أعنتك بطبقتين فأطبق" .

{ وَهَدَيْنَـٰهُ ٱلنَّجْدَينِ }، قال: أكثر المفسرين طريق الخير والشر، والحق والباطل، والهدى والضلالة، كقوله: { إِنَّا هَدَيْنَـٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراًً } وقال محمد بن كعب عن ابن عباس: "وهديناه النجدين" قال: الثديين، وهو قول سعيد بن المسيب والضحاك: والنجد: طريق في ارتفاع.

{ فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ }، يقول: فهلاَّ أنفق ماله فيما يجوزُ به من فك الرقاب وإطعام السَّغْبَان، فيكون خيراً له من إنفاقه على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم، هذا قول ابن زيد وجماعة.

وقيل: { فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ } أي لم يقتحمها ولا جاوزها. والاقتحام: الدخول في الأمر الشديد، وذكْرُ العقبة ها هنا مَثَلٌ ضربه الله لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البر، فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة، يقول: لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة ولا طعام، وهذا معنى قول قتادة.

وقيل: إنه شبَّه ثقل الذنوب على مرتكبها بعقبة, فإذا أعتق رقبة وأطعم كان كمن اقتحم العقبة وجاوزها.

وروي عن ابن عمر: أن هذه العقبة جبل في جهنم.

وقال الحسن وقتادة: عقبة شديدة في النار دون الجسر، فاقتحموها بطاعة الله تعالى.

وقال مجاهد, والضحاك, والكلبي: هي صراط يضرب على جهنم كحدِّ السيف, مسيرة ثلاثة آلاف سنة سهلاً وصعوداً وهبوطاً، وإن بجنبتيه كلاليب وخطاطيف كأنها شوك السعدان، فناج مسلَّم، وناج مخدوش، ومكردس في النار منكوس، فمن الناس من يمرّ كالبرق الخاطف، ومنهم من يمرّ كالريح العاصف، ومنهم من يمرّ كالفارس، ومنهم من يمر عليه كالرجل يعدو، ومنهم من يمر كالرجل يسير، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم الزالُّون، ومنهم من يكردس في النار.

قال ابن زيد: يقول فهلاَّ سلك الطريق التي فيها النجاة. ثم بيَّن ما هي فقال:

{ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْعَقَبَةُ }، ما اقتحام العقبة، قال سفيان بن عيينة: كل شيء، قال: "وما أدراك" فإنه أخبر به، وما قال: "وما يدريك" فإنه لم يخبر به.

{ فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ }، قرأ ابن كثير, وأبو عمرو, والكسائي: "فكَّ" بفتح الكاف، "رَقَبةً" نصب، "أو أَطْعَمَ" بفتح الهمزة والميم على الماضي، وقرأ الآخرون "فكُّ" برفع الكاف، "رقبةٍ" جراً، "أو إطعام" بكسر الهمزة, فألف بعد العين, ورفع الميم منونة على المصدر.

وأراد بفك الرقبة إعتاقها وإطلاقها، ومن أعتق رقبة كانت الرقبة فداءه من النار.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان, حدثنا أبو جعفر ابن محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني, حدثنا حميد بن زنجويه, حدثنا عبد الله بن صالح, حدثني الليث بن سعد, حدثني ابن الهادِ عن عمر بن علي بن حسين, عن سعيد بن مرجانة قال: سمعته يحدث عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار، حتى يعتق فرجه بفرجه" .

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أبو منصور السمعاني, أخبرنا أبو جعفر الرياني, حدثنا حميد بن زنجويه, حدثنا محمد بن كثير العبدي, حدثنا عيسى بن عبد الرحمن السُّلمي, عن طلحة بن مُصَرِّف اليامي, عن عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب قال: "جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله علِّمني عملاً يدخلني الجنة، قال: لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة، أعتقِ النسمةَ وفكَّ الرقبة, قال: قلت: أَوَلَيْسَا واحداً؟ قال: لا, عتقُ النسمة: أن تنفرد بعتقها، وفكُّ الرقبة: أن تعين في ثمنها، والمِنْحَةُ الوَكُوفُ، وأنفق على ذي الرحم الظالم، فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع واسق الظمآن، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، فإن لم تطق ذلك فكفَّ لسانك إلا من خير" .

وقال عكرمة قوله: { فَكُّ رَقَبَةٍ }، يعني فك رقبة من الذنوب بالتوبة { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ }، مجاعة، يقال: سَغَبَ يَسْغُب سَغْباً إذا جاع.