التفاسير

< >
عرض

إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ
١
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ
٢
-القدر

معالم التنزيل

{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ }, يعني القرآن, كناية عن غير مذكور، أنزله جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، فوضعه في بيت العزة، ثم كان ينزل به جبريل عليه السلام نجوماً في عشرين سنة. ثم عجَّب نبيه فقال:

{ وَمَآ أَدْرَٰكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ }، سُميتْ ليلة القدر لأنها ليلة تقدير الأمور والأحكام، يقدر الله فيها أمر السنة في عباده وبلاده إلى السنة المقبلة، كقوله تعالى: { { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } [الدخان:4]، وهو مصدر قولهم: قَدَر الله الشيء بالتخفيف, قَدْراً وقدَراً، كالنَّهْر والنَّهَر والشَّعْر والشَّعَر، وقدّره - بالتشديد - تقديراً وقَدَر بالتخفيف قدراً بمعنى واحد.

قيل للحسين بن الفضل: أليس قد قدر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: بلى، قيل: فما معنى ليلة القدر؟ قال: سَوْق المقادير إلى المواقيت، وتنفيذ القضاء المقدر. وقال الأزهري: "ليلة القدر": أي ليلة العظمة والشرف من قول الناس: لفلان عند الأمير قدر، أي جاه ومنزلة، يقال: قَدَرْتُ فلاناً أي عظمته. قال الله تعالى: { { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [الأنعام: 91]، [الزمر: 67]، أي: ما عظموه حق تعظيمه.

وقيل: لأن العمل الصالح فيه يكون ذا قدر عند الله لكونه مقبولاً.

واختلفوا في وقتها؛ فقال بعضهم: إنها كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رفعت، وعامة الصحابة والعلماء على أنها باقية إلى يوم القيامة. وروي عن عبد الله بن مكانس مولى معاوية قال: قلت لأبي هريرة: زعموا أن ليلة القدر قدْ رُفعتْ؟ قال: كذب من قال ذلك، قلت: هي في كل شهر أستقبله؟ قال: نعم.

وقال بعضهم: هي ليلة من ليالي السنة حتى لو علَّق رجل طلاق امرأته وعتق عبده بليلة القدر, لا يقع ما لم تمض سنة من حين حلف، يروى ذلك عن ابن مسعود، قال: من يقم الحول يُصِبْهَا, فبلغ ذلك عبد الله بن عمر فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن أما إنه علم أنها في شهر رمضان، ولكن أراد أن لا يتكل الناس.

والجمهور من أهل العلم على أنها في شهر رمضان.

واختلفوا في تلك الليلة؛ قال أبو رزين العقيلي: هي أول ليلة من شهر رمضان. وقال الحسن: ليلة سبع عشرة، وهي الليلة التي كانت صبيحتها وقعة بدر.

والصحيح والذي عليه الأكثرون: أنها في العشر الأواخر من شهر رمضان.

أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي, أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي, حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي, حدثنا أبو عيسى الترمذي, حدثنا هارون بن إسحاق الهَمْداني, حدثنا عبدة بن سليمان, عن هشام بن عروة, عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان، ويقول: تحَّروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان" .

أخبرنا أبو عثمان الضبي, أخبرنا أبو محمد الجراحي, حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي, حدثنا أبو عيسى, حدثنا قتيبة, حدثنا عبد الواحد بن زياد, عن الحسن بن عبيد الله, عن إبراهيم, عن الأسود, عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها" .

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا سفيان, عن أبي يعقوب, عن أبي الضحى, عن مسروق, عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان شدّ مئزره وأحيا ليله، وأيقظ أهله" .

واختلفوا في أنها في أي ليلة من العشر؟.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا قتيبة بن سعيد, حدثنا إسماعيل بن جعفر, حدثنا أبو سهل بن مالك, عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تحَّروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان" .

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان, أخبرنا مكي بن عبدان, حدثنا عبد الله بن هاشم بن حيان, حدثنا يحيى بن سعيد القطان, حدثنا عيينة بن عبد الرحمن, حدثني أبي قال: ذكرت ليلة القدر عند أبي بكرة، فقال: ما أنا بطالبها بعد شيء سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في العشر الأواخر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "التمسوها في العشر الأواخر من تسع بَقِينَ أو سبع بقين أو خمس بقين أو ثلاث بقين أو آخر ليلة" , فكان أبو بكرة إذا دخل رمضان يصلي كما يصلي في سائر السنة، فإذا دخل العشر الأخير اجتهد.

وأخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا محمد بن المثنى, حدثني خالد بن الحارث, حدثنا حميد, حدثنا أنس بن مالك عن عبادة بن الصامت قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: خرجتُ لأُخبركم بليلة القدر فَتَلاَحَى فلان وفلانٌ فرُفعتْ، وعسى أن يكون خيراً لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة" . أخبرنا أبو الحسن السرخسي, أخبرنا زاهر بن أحمد, أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي, أخبرنا أبو مصعب عن مالك, عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر من رمضان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريَها فليتحرَّهَا في السبع الأواخر" .

ورُوي عن أبي سعيد الخدري: أنها ليلة إحدى وعشرين.

أخبرنا أبو الحسن السرخسي, أخبرنا زاهر بن أحمد, أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي, أخبرنا أبو مصعب عن مالك, عن يزيد بن عبد الله بن الهاد, عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي, عن أبي سلمة بن عبد الرحمن, عن أبي سعيد الخدري أنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الوسطى من رمضان، واعتكف عاماً حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج صبحها من اعتكافه، قال: من كان سيعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر، وقد رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها، وقد رَأَيْتُنِي أسجد في صبيحتها في ماء وطين، فالتمسوها في العشر الأواخر, والتمسوها في كل وتر" .

قال أبو سعيد الخدري: فمطرت السماء تلك الليلة، وكان المسجد على عريش فَوَكَفَ المسجد.

قال أبو سعيد: فأَبْصَرتْ عينايَ رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف وعلى جبهته وأنفه أَثَرُ الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين.

وقال بعضهم: هي ليلة ثلاث وعشرين:

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أبو منصور السمعاني, حدثنا أبو جعفر الرياني, حدثنا حميد بن زنجويه, حدثنا أحمد بن خالد الحمصي, حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم, حدثني عبد الله بن أنيس عن أبيه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أكون ببادية يقال لها الوَطْأة، وإني بحمد الله أُصلِّي بهم, فمُرْني بليلةٍ من هذا الشهر أنزلُها إلى المسجد فأصلِّيها فيه، فقال: انزلْ ليلةَ ثلاثٍ وعشرين فصلِّها فيه، وإن أحببت أن تَسْتَتمّ آخر الشهر فافعل، وإن أحببت فكُفّ" . قال: فكان إذا صلّى العصر دخل المسجد فلم يخرج إلا من حاجة حتى يصليّ الصبح، فإذا صلى الصبح كانت دابته بباب المسجد.

وأخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أبو منصور السمعاني, حدثنا أبو جعفر الرياني, حدثنا حميد بن زنجويه, حدثنا يعلى بن عبيد, حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: "تذاكرنا ليلة القدر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم مضى من الشهر؟ فقلنا: ثنتان وعشرون وبقي سبع, فقال: مضى اثنتان وعشرون وبقي سبع، اطلبوها الليلةَ, الشهرُ تسع وعشرون" .

وقال قوم: هي ليلة سبع وعشرين، وهو قول علي وأُبيّ وعائشة:

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أبو منصور السمعاني, حدثنا أبو جعفر الرياني, حدثنا حميد بن زنجويه, حدثنا يعلى بن عبيد, حدثنا سفيان عن عاصم عن زر بن حبيش قال: قلت لأبيّ ابن كعب: يا أبا المنذر أخبْرنا عن ليلةِ القدرِ، فإن ابنَ أمِّ عبدٍ يقول: من يَقُمِ الحولَ يُصِبْهَا، فقال: رحم الله أبا عبد الرحمن، أما إنه قد علم أنها في رمضان, ولكن كره أن يُخْبِرَكم فَتَتَّكِلوا هي - والذي أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم - ليلةُ سبع وعشرين، فقلنا: يا أبا المنذر أنَّى علمتَ هذا؟ قال: بالآية التي أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم فحفظناها ووعينا هي والله لا تنسى، قال قلنا لزِرٍّ: وما الآية؟ قال: تطلع الشمس كأنها طَاسٌ ليس لها شعاع.

ومن علاماتها: ما روي عن الحسن رَفَعَه أنها ليلة بَلْجَةٌ سَمْحَةٌ لا حارَّةٌ ولا باردة، تطلع الشمس صبيحتها لا شُعاع لها.

وفي الجملة: أبهم الله هذه الليلة على هذه الأمة ليجتهدوا في العبادة ليالي رمضان طمعاً في إدراكها، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة, وأخفى الصلاةَ الوسطى في الصلوات الخمس، واسمَه الأعظم في الأسماء, ورضاه في الطاعات ليرغبوا في جميعها، وسخطَه في المعاصي لينتهوا عن جميعها، وأخفى قيامَ الساعة ليجتهدوا في الطاعات حذراً من قيامها.