التفاسير

< >
عرض

وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ
٣٨
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ
٣٩
حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ
٤٠
-هود

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

التقدير: فشرع يصنع فحكيت حال الاستقبال، إذ في خلالها وقع مرورهم، قال ابن عباس: صنع نوح الفلك ببقاع دمشق وأخذ عودها من لبنان وعودها من الشمشار وهو البقص. وروي أن عودها من الساج وأن نوحاً عليه السلام اغترسه حتى كبر في أربعين سنة؛ وروي أن طول السفينة ألف ذراع ومائتان، وعرضها ستمائة ذراع، ذكره الحسن بن أبي الحسن وقيل: طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعاً، وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً، ذكره قتادة، وروي غير هذا مما لم يثبت، فاختصرت ذكره، وذكر الطبري حديث إحياء عيسى ابن مريم لسام بن نوح وسؤاله إياه عن أمر السفينة فذكر أنها ثلاث طبقات: طبقة للناس، وطبقة للبهائم، وطبقة للطير، إلى غير ذلك في حديث طويل.
و"الملأ" هنا الجماعة، و { سخروا } معناه استجهلوه، وهذا الاستجهال إن كان الأمر كما ذكر أنهم لم يكونوا قبل رأوا سفينة ولا كانت - فوجه الاستجهال واضح. وبذلك تظاهرت التفاسير؛ وإن كانت السفائن حينئذ معروفة فاستجهلوه في أن صنعها في موضع لا قرب لها من البحر وروي أنهم كانوا يقولون له صرت نجاراً بعد النبوة؟‍‍!!.
وقوله { فإنا نسخر منكم } قال الطبري: يريد في الآخرة.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل الكلام، بل هو الأرجح، أن يريد: إنا نسخر منكم الآن، أي نستجهلكم لعلمنا بما أنتم عليه من الغرر مع الله تعالى والكون بمدرج عذابه، ثم جاء قوله: { فسوف تعلمون } تهديداً، والسخر: الاستجهال مع استهزاء، ومصدره: سُخرى بضم السين، والمصدر من السخرة والستخير سِخرى بكسرها.
و"العذاب المخزي" هو الغرق، و"المقيم" هو عذاب الآخرة، وحكى الزهراوي أنه يقرأ "ويحُل" بضم الحاء، ويقرأ "ويحِل" بكسرها، بمعنى ويجب. و { من } في موضع نصب بـ { تعلمون }. وجاز أن يكون { تعلمون } بمثابة تعرفون في التعدي إلى مفعول واحد، وجائز أن تكون التعدية إلى مفعولين واقتصر على الواحد.
وقوله تعالى: { حتى إذا جاء أمرنا } الآية، الأمر ها هنا يحتمل أن يكون واحد الأمور، ويحتمل أن يكون مصدر أمر، فمعناه أمرنا للماء بالفوران، أو للسحاب بالإرسال، أو للملائكة بالتصرف في ذلك، ونحو هذا مما يقدر في النازلة و { فار } معناه انبعث بقوة؛ واختلف الناس في { التنور }، فقالت فرقة - وهي الأكثر - منهم ابن عباس ومجاهد وغيرهما: هو تنور الخبز الذي يوقد فيه، وقالت فرقة: كانت هذه أمارة جعلها الله لنوح، أي إذا فار التنور فاركب في السفينة؛ ويشبه أن يكون وجه الأمارة أن مستوقد النار إذا فار بالماء فغيره أشد فوراناً، وأحرى بذلك. وروي أنه كان تنور آدم عليه السلام خلص إلى نوح فكان يوقد فيه، وقال النقاش: اسم المستوقد التنور بكل لغة؛ وذكر نحو ذلك ابن قتيبة في الأدب عن ابن عباس.
قال القاضي أبو محمد: وهذا بعيد، وقيل: إن موضع تنور نوح عليه السلام كان بالهند، وقيل: كان في موضع مسجد الكوفة، وقيل كان في ناحية الكوفة، قاله الشعبي ومجاهد، وقيل كان في الجهة الغربية من قبلة المسجد بالكوفة، وقال ابن عباس وعكرمة: التنور وجه الأرض، ويقال له: تنور الأرض، وقال قتادة: { التنور }: أعالي الأرض، وقالت فرقة: { التنور }: عين بناحية الجزيرة، وقال الحسن بن أبي الحسن: { التنور } مجتمع ماء السفينة فار منه الماء وهي بعد في اليبس، وقالت فرقة: { التنور } هو الفجر، المعنى: إذا طلع الفجر فاركب في السفينة، وهذا قول روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، إلا أن التصريف يضعفه، وكان يلزم أن يكون التنور، وقالت فرقة: الكلام مجاز وإنما إراد غلبة الماء وظهور العذاب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لشدة الحرب:
"حمي الوطيس" والوطيس أيضاً مستوقد النار، فلا فرق بين حمي و { فار } إذ يستعملان في النار، قال الله تعالى: { { سمعوا لها شهيقاً وهي تفور } } [الملك: 7]، فلا فرق بين الوطيس والتنور.
وقرأ حفص عن عاصم "من كلٍّ زوجين اثنين" بتنوين { كل } وقرأ الباقون "من كلِّ زوجين" بإضافة { كل } إلى { زوجين }. فمن قرأ بالتنوين حذف المضاف إليه التقدير: من كل حيوان أو نحوه، وأعمل "الحمل" في { زوجين } وجاء قوله: { اثنين } تأكيداً - كما قال:
{ { إلهين اثنين } [النحل: 51]. ومن قرأ بالإضافة فأعمل "الحمل" في قوله { اثنين }، وجاء قوله { زوجين } بمعنى العموم، أي من كل ما له ازدواج، هذا معنى قوله: { من كل زوجين } قاله أبو علي وغيره، ولو قدرنا المعنى: احمل من كل زوجين حاصلين اثنين لوجب أن يحمل من كل نوع أربعة، والزوج يقال في مشهور كلام العرب للواحد مما له ازدواج، فيقال: هذا زوج هذا، وهما زوجان: وهذا هو المهيع في القرآن في قوله تعالى: { { ثمانية أزواج } } [الأنعام: 143، الزمر: 6] ثم فسرها، وكذلك هو في قوله تعالى: { { وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى } } [النجم: 45]. قال أبو الحسن الأخفش في كتاب الحجة: وقد يقال في كلام العرب للاثنين زوج، ومن ذلك قول لبيد: [الكامل]

من كل محفوف يظل عصيه زوج عليه كلة وقرامها

وهكذا يأخذ العدديون: الزوج أيضاً في كلام العرب النوع كقوله: { { وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج } } [ق: 7] وقوله: { { سبحان الذي خلق الأزواج كلها } [يس: 36] إلى غير ذلك.
وروي في قصص هذه الآية أن نوحاً عليه السلام كان يأتيه الحيوان، فيضع يمينه على الذكر ويساره على الأنثى. وروي أن أول ما أدخل في السفينة الذر، وآخر ما أدخل الحمار، فتمسك الشيطان بذنبه، فزجره نوح عليه السلام فلم ينبعث فقال له: ادخل ولو كان معك الشيطان، قال ابن عباس: زلت هذه الكلمة من لسانه فدخل الشيطان حينئذ، وكان في كوثل السفينة، أي عند مؤخرها، وقيل كان على ظهرها. وروي أن نوحاً عليه السلام آذاه نتن الزبل والعذرة، فأوحى الله إليه: أن امسح على ذنب الفيل، ففعل، فخرج من الفيل - وقيل من أنفه - خنزير وخنزيرة، فكفيا نوحاً وأهله ذلك الأذى؛ وهذا يجيء منه أن نوع الخنازير لم يكن قبل ذلك. وروي أن الفأر آذى الناس في السفينة بقرض حبالها وغير ذلك، فأمر الله نوحاً أن يمسح على جبهة الأسد ففعل، فعطس فخرج منه هر وهرة، فكفياهم الفأر، وروي أيضاً أن الفار خرج من أنف الخنزير.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله قصص لا يصح إلا لو استند والله أعلم كيف كان.
وقوله: { وأهلك } عطف على ما عمل فيه { احمل } و"الأهل" هنا القرابة، وبشرط من آمن منهم، خصصوا تشريفاً؛ ثم ذكر { من آمن } وليس من الأهل واختلف في الذي { سبق عليه القول } فقيل: هو ابنه يام، وقال النقاش: اسمه كنعان؛ وقيل هي امرأته والعة هكذا اسمها بالعين غير منقوطة؛ وقيل: هو عموم في من لم يؤمن من أهل نوح وعشيرته. و { القول } ها هنا معناه: القول بأنه يعذب، وقوله: { ومن آمن } عطف على قوله: { وأهلك } ثم قال إخباراً عن حالهم { وما آمن معه إلا قليل } واختلف في ذلك { القليل } فقيل: كانوا ثمانين رجلاً وثمانين امرأة وقيل كان جميعهم ثلاثة وثمانين: وقيل كانوا ثمانين في الكل، قاله السدي: وقيل: عشرة؛ وقيل: ثمانية، قاله قتادة وقيل: سبعة؛ والله أعلم. وقيل: كان في السفينة جرهم، وقيل لم ينج من الغرق أحد إلا عوج ابن أعنق، وكان في السفينة مع نوح عليه السلام ثلاثة من بنيه سام، وحام، ويافث، وغرق يام. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"سام أبو العرب، ويافث أبو الروم، وحام أبو الحبش" .