التفاسير

< >
عرض

أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٥
وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ
٦
-هود

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

قيل إن هذه الآية نزلت في الكفار الذين كانوا إذا لقيهم رسول الله عليه وسلم تطامنوا وثنوا صدورهم كالمستتر وردوا إليه ظهورهم وغشوا وجوههم بثيابهم تباعداً منه وكراهة للقائه، وهم يظنون أن ذلك يخفى عليه وعلى الله عز وجل فنزلت الآية في ذلك.
و { صدورهم } منصوبة على هذا بـ { يثنون } . وقيل: هي استعارة للغل والحقد الذي كانوا ينطوون عليه كما تقول: فلان يطوي كشحه على عداوته، ويثني صدره عيلها.
فمعنى الآية: ألا إنهم يسرون العداوة ويتكتمون بها لتخفى في ظنهم عن الله، وهو تعالى حين تغشيهم بثيابهم وإبلاغهم في التستر يعلم ما يسرون.
وقرأ سعيد بن جبير "يُثنُون" بضم الياء والنون من أثنى، وقرأ ابن عباس " ليثنوه "، وقرأ ابن عباس أيضاً ومجاهد وابن يعمر وابن بزي ونصر بن عاصم والجحدري وابن إسحاق وابن رزين وعلي بن الحسين وأبو جعفر محمد بن علي ويزيد بن علي وجعفر بن محمد وأبو الأسود والضحاك " تثنوني صدورُهم " برفع الصدور وهي تحتمل المعنيين المتقدمين في { يثنون }، وزنها تفوعل على بناء مبالغة لتكرار الأمر، كما تقول اعشوشبت الأرض واحلولت الدنيا ونحو ذلك . وحكى الطبري عن ابن عباس على هذه القراءة أن هذه الآية نزلت في أن قوماً كانوا لا يأتون النساء والحدث إلا ويتغشون ثيابهم كراهية أن يفضوا بفروجهم إلى السماء. وقرأ ابن عباس - فيما روى ابن عيينة - " تثنو" بتقديم الثاء على النون وبغير نون بعد الواو، وقال أبو حاتم هذه القراءة غلط لا تتجه، وقرأ نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق " ينثوي " بتقديم النون على الثاء، وقرأ عروة وابن أبي أبزى والأعشى "تثنَون" بثاء مثلثة بعدها نون مفتوحة بعدها واو مكسورة، وقرأ أيضاً هما ومجاهد فيما روي عنه " تثنان " بهمزة بدل الواو وهاتان مشتقة من الثن وهي العشب المثني بسهولة، فشبه صدورهم به إذ هي مجيبة إلى هذا الانطواء على المكر والخدع: وأصل " تثنون" تثنونن سكنت النون المكسورة ونقلت حركتها إلى الواو التي قبلها وأدغمت في النون التي بعدها، وأما " تثنان " فأصلها تثنان مثل تحمار ثم قالوا: اثنانت كما قالوا احمار وابياض، والضمير في { منه } عائد على الله تعالى، هذا هو الأفصح الأجزل في المعنى وعلى بعض التأويلات يمكن أن يعود على محمد صلى الله عليه وسلم، و { يستغشون } معناه يجعلونها أغشية وأغطية ومنه قول الخنساء: [البسيط]

أرعى النجوم وما كلّفت رعيتها وتارة اتَغَشَّى فضل أطماري

وقرأ ابن عباس " على حين يستغشون " ومن هذا الاستعمال قول النابغة: [الطويل ]

على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألمّا أصحُ والشيبُ وازع

و { ذات الصدور }: ما فيها، والذات تتصرف في الكلام على وجوه هذا أحدها كقول العرب الذيب مغبوط بذي بطنه أي بالذي فيه من النفخ وكقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: إنما هو ذو بطن بنت خارجة، والذات التي هي حقيقة الشيء ونفسه قلقة في هذا الموضع؛ ويحتمل أن يفرق بين ذي بطنه وبين الذات وإنما يجمع بينهما المعنى.
وقوله تعالى: { وما من دابة..... } الآية، تماد في وصف الله تعالى بنحو قوله { يعلم ما يسرون وما يعلنون }. و" الدابة " ما دب من الحيوان، والمراد جميع الحيوان الذي يحتاج إلى رزق ويدخل في ذلك الطائر والهوام وغير ذلك كلها دواب، وقد قال الأعشى: [الطويل ]

نياف كغصن البان ترتج إن مشت دبيب قطا البطحاء في كل منهل

وقال علقمة بن عبيدة لطيرهن دبيب وفي حديث أبي عبيدة: فإذا دابة مثل الظرب يريد من حيوان البحر، وتخصيصه بقول { في الأرض } إنما هو لأنه الأقرب لحسهم: والطائر والعائم إنما هو في الأرض، وما مات من الحيوان قبل أن يتغذى فقد اغتذى في بطن أمه بوجه ما.
وهذه الآية تعطي أن الرزق كل ما صح الانتفاع به خلافاً للمعتزلة في قولهم إنه الحلال المتملك.
وقوله تعالى: { على الله } إيجاب لأنه تعالى لا يجب عليه شيء عقلاً. و" المستقر": صلب الأب: و" المستودع " بطن الأم، وقيل " المستقر": المأوى، و" المستودع" القبر، وهما على هذا الطرفان، وقيل " المستقر"، ما حصل موجوداً من الحيوان، والمستودع ما يوجد بعد. قال القاضي أبو محمد: و" المستقر" على هذا - مصدر استقر وليس بمفعول كمستودع لأن استقر لا يتعدى. وقوله: { في كتاب } إشارة إلى اللوح المحفوظ. وقال بعض الناس: هذا مجاز وهي إشارة إلى علم الله.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف وحمله على الظاهر أولى.