التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ
٥٤
قَالَ ٱجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ
٥٥
وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٥٦
وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ
٥٧
-يوسف

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المعنى أن الملك لما تبينت له براءة يوسف مما نسب إليه، وتحقق في القصة أمانته، وفهم أيضاً صبره وجلده، عظمت منزلته عنده وتيقن حسن خلاله فقال: { ائتوني به أستخلصه لنفسي }.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الذي أمّ يوسف عليه السلام بتثبته في السجن أن يرتقي إلى أعلى المنازل، فتأمل أن الملك قال أولاً - حين تحقق علمه -
{ { ائتوني به } [يوسف: 50] فقط، فلما فعل يوسف ما فعل، فظهرت أمانته وصبره وعلو همته وجودة نظره قال: { ائتوني به أستخلصه لنفسي }، فلما جاءه وكلمه قال: { إنك اليوم لدينا مكين أمين } فدل ذلك على أنه رأى من كلامه وحسن منطقه ما صدق به الخبر أو أربى عليه، إذ المرء مخبوء تحت لسانه؛ ثم لما زاول الأعمال مشى القدمية حتى ولاه خطة العزيز.
و { أمين } من الأمانة، وقالت فرقة هو بمعنى آمن.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، لأنه يخرج من نمط الكلام وينحط إكرام يوسف كثيراً ويروى أن الملك لما أدنى يوسف قال له: إني أشاركك في كل شيء إلا أني أحب أن لا تشركني في أهلي وأن لا يأكل معي عبدي، فقال له يوسف: أتأنف أن آكل معك؟ أنا أحق أن آنف، أنا ابن إبراهيم الخليل، وابن إسحاق الذبيح، وابن يعقوب الصديق.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا الحديث بعد وضعف، وقد قال ابن ميسرة: إنما جرى هذا في أول أمره، كان يأكل مع العزيز، فلما جرت قصة المرأة قالت للعزيز: أتدع هذا يواكلك؟ فقال له: اذهب فكل مع العبيد؛ فأنف وقال ما تقدم.
اما ان الظاهر من قصته وقت محاورة الملك أنه كان على عبودية، وإلا كان اللائق به أن ينتحي بنفسه عن عمل الكافر، لأن القوم كانوا أهل أوثان ومحاورة يوسف لصاحبي السجن تقضي بذلك.
وسمى الله تعالى فرعون مصر ملكاً إذ هي حكاية اسم مضى حكمه وتصرم زمنه، ولو كان حياً لكان حكماً له إذا قيل لكافر: ملك أو أمير، ولهذا كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل فقال:
"عظيم الروم" ، ولم يقل: ملكاً ولا أميراً، لأن ذلك حكم، والحق أن يسلم ويسلموا. وأما كونه عظيمهم فتلك صفة لا تفارقه كيفما تقلب، ولو كتب له النبي عليه السلام: أمير الروم، لتمسك بتلك الحجة على نحو تمسك زياد في قوله: شهد - والله - لي أبو الحسن.
وقوله تعالى: { اجعلني على خزائن الأرض } الآية، فهم يوسف عليه السلام من الملك أنه عزم على تصريفه والاستعانة بنظره في الملك، فألقى يده في الفصل الذي تمكنه فيه المعدلة ويترتب له الإحسان إلى من يجب ووضع الحق على أهله وعند أهله.
قال بعض أهل التأويل: في هذه الآية ما يبيح للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر بشرط أن يعلم أنه يفوض إليه في فصل ما لا يعارض فيه، فيصلح منه ما شاء؛ وأما إن كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره، فلا يجوز له ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وطلبة يوسف للعمل إنما هي حسبة منه عليه السلام لرغبته في أن يقع العدل، ونحو هذا هو دخول أبي بكر الصديق في الخلافة مه نهيه المستشير من الأنصار عن أن يتأمر على اثنين... الحديث بكماله فجائز للفاضل أن يعمل وأن يطلب العمل إذا رأى ألا عوض منه، وجائز أيضاً للمرء أن يثني على نفسه بالحق إذا جهل أمره.
و { خزائن } لفظ عام لجميع ما تختزنه المملكة من طعام ومال وغيره. و { حفيظ عليم } صفتان تعم وجوه التثقيف والحيطة لا خلل معهما لعامل. وقد خصص الناس بهاتين الصفتين أشياء، مثل قولهم: "حفيظ" بالحساب "عليم" بالألسن، وقول بعضهم: "حفيظ" لما استودعتني، "عليم" بسني الجوع، وهذا كله تخصيص لا وجه له، وإنما أراد باتصافه أن يعرف الملك بالوجه الذي به يستحق الكون على خزائن الأرض فاتصف بأنه يحفظ المجبي من كل جهة تحتاج إلى الحفظ. ويعلم التناول أجمع. وروي عن مالك بن أنس أنه قال: مصر خزانة الأرض، واحتج بهذه الآية.
وقوله { خزائن الأرض } يريد أرض مصر إذ لم تكن مملكة فرعون إلا بها فقط، ويؤكد أن تسمى خزانة الأرض نصبتها في بلاد الأرض وتوسطها، فمنها ينقل الناس إلى أقطار الأرض وهي محل كل جالب.
وقوله تعالى: { وكذلك مكنا ليوسف } الآية، الإشارة بذلك إلى ما تقدم من جميل صنع الله به كهذه الفعال المنصوصة، درجناه في الرتب ونقلناه فمكنا له في الأرض.
قال القاضي أبو محمد: فروي أن العزيز مات في تلك الليالي، وقال ابن إسحاق: بل عزله الملك ثم مات أطفير، فولاه الملك مكانه وزوجه زوجته، فلما دخلت عليه عروساً قال لها: أليس هذا خيراً مما كنت أردت؟ فقالت له: أيها الصديق كنت في غاية الجمال، وكنت شابة عذراء، وكان زوجي لا يطأ، فغلبتني نفسي في حبك، فدخل يوسف بها فوجدها بكراً، وولدت له ولدين. وروي أن الملك عزل العزيز، وولاه موضعه، ثم عظم ملك يوسف وتغلب على حال الملك أجمع، قال مجاهد: وأسلم الملك آخر أمره، ودرس أمر العزيز وذهبت دنياه، ومات وافتقرت زوجته، وزمنت وشاخت، فلما كان في بعض الأيام. لقيت يوسف في طريق، والجنود حوله ووراءه، وعلى رأسه بنود عليها مكتوب
{ { هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وسبحان الله، وما أنا من المشركين } [يوسف: 108] فصاحت به وقالت: سبحان من أعز العبيد بالطاعة، وأذل الأرباب بالمعصية، فعرفها، وقالت له: تعطف عليَّ وارزقني شيئاً فدعاها وكلمها، وأشفق لحالها، ودعا الله تعالى، فرد عليها جمالها وتزوجها.
قال القاضي أبو محمد: وروي في نحو هذا من القصص ما لا يوقف على صحته، ويطول الكلام بسوقه. وقرأ الجمهور: "حيث يشاء" على الإخبار عن يوسف؛ وقرأ ابن كثير وحده "حيث نشاء" بالنون على ضمير المتكلم. أي حيث يشاء الله من تصرف يوسف على اختلاف تصرفه، وحكى أبو حاتم هذه القراءة عن الحسن وشيبة ونافع وأبي جعفر بخلاف عن الثلاثة المدنيين؛ وقال أبو علي: إما أن يكون تقدير هذه القراءة: حيث يشاء من المحاريب والمتعبدات وأحوال الطاعات، فهي قرب يريدها الله ويشاؤها؛ وإما أن يكون معناها: حيث يشاء يوسف، لكن أضاف الله عز وجل المشيئة التي ليوسف إليه من حيث هو عبد من عبيده، وكانت مشيئته بقدرة الله تعالى وقوته كما قال:
{ { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } } [الأنفال: 17].
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله من أبي على نزغة اعتزالية، وتحفظ من أن أفعال العباد من فاعلين، فتأمله.
واللام في قوله: { مكنا ليوسف } يجوز أن تكون على حد التي في قوله
{ { ردف لكم } [النمل: 72] و { { للرؤيا تعبرون } [يوسف: 43]. وقوله: { يتبوأ } في موضع نصب على الحال، و { حيث يشاء } نصب على الظرف أو على المفعول به، كما قال الشماخ: حيث تكوى النواحز. وباقي الآية بين.
ولما تقدم في هذه الآية الإحسان من العبد، والجري على طريق الحق لا يضيع عند الله ولا بد من حسن عاقبته في الدنيا، عقب ذلك بأن حال الآخرة أحمد وأحرى أن تجعل غرضاً ومقصداً، وهذا هو الذي ينتزع من الآية بحسب المقيدين بالإيمان والتقوى من الناس وفيها مع ذلك إشارة إلى أن حاله من الآخرة خير من حاله العظيمة في الدنيا.