التفاسير

< >
عرض

وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَٰأَسَفَىٰ عَلَى يُوسُفَ وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ
٨٤
قَالُواْ تَاللهِ تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ ٱلْهَالِكِينَ
٨٥
قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٨٦
-يوسف

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المعنى: أنه لما ساء ظنه بهم ولم يصدق قولهم بل استراب به، { تولى عنهم } أي زال بوجهه عنهم وجعل يتفجع ويتأسف، قال الحسن: خصت هذه الأمة بالاسترجاع ألا ترى إلى قول يعقوب: { يا أسفي }.
قال القاضي أبو محمد: والمراد: "يا أسفي". لكن هذه لغة من يرد ياء الإضافة ألفاً نحو: يا غلاماً ويا أبتا، ونادى الأسف على معنى احضر فهذا من أوقاتك. وقيل: قوله: { يا أسفى } على جهة الندبة، وحذف الهاء التي هي في الندبة علامة المبالغة في الحزن تجلداً منه عليه السلام، إذ كان قد ارتبط إلى الصبر الجميل، وقيل: قوله: { يا أسفى } نداء فيه استغاثة.
قال القاضي أبو محمد: ولا يبعد أن يجتمع الاسترجاع و { يا أسفى } لهذه الأمة وليعقوب عليه السلام.
{ وابيضت عيناه } أي من ملازمة البكاء الذي هو ثمرة الحزن، وروي
"أن يعقوب عليه السلام حزن حزن سبعين ثكلى وأعطي أجر مائة شهيد وما ساء ظنه بالله قط" ، رواه الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقرأ ابن عباس ومجاهد "من الحَزَن" بفتح الحاء والزاي، وقرأ قتادة بضمهما وقرأ الجمهور بضم الحاء وسكون الزاي.
{ وهو كظيم } يمعنى كاظم، كما قال
{ { والكاظمين الغيظ } [آل عمران: 134]، ووصف يعقوب بذلك لأنه لم يشك إلى أحد، وإنما كان يكمد في نفسه ويمسك همه في صدره، وكان يكظمه أي يرده إلى قلبه ولا يرسله بالشكوى والغضب والفجر. وقال ناس: { كظيم } بمعنى: مكظوم.
قال القاضي أبو محمد: وقد وصف الله تعالى يونس عليه السلام بمكظوم في قوله
{ { إذ نادى وهو مكظوم } [القلم: 48] وهذا إنما يتجه على تقدير أنه مليء بحزنه، فكأنه كظم بثه في صدره، وجري كظيم على باب كاظم أبين. وفسر ناس "الكظيم" بالمكروب وبالمكمود - وذلك كله متقارب - وقال منذر بن سعيد: الأسف إذا كان من جهة من هو أقل من الإنسان فهو غضب، ومنه قول الله تعالى: { { فلما آسفونا انتقمنا منهم } [الزخرف: 55] ومنه قول الرجل الذي ذهبت لخادمه الشاة من الغنم: فأسفت فلطمتها؛ وإذا كان من جهة لا يطيقها فهو حزن وهم.
قال القاضي أبو محمد: وتحرير هذا المنزع: أن الأسف يقال في الغضب ويقال في الحزن، وكل واحد من هذين يحزر حاله التي يقال عليها، وقوله تعالى: { قالوا تالله تفتأ } الآية، المعنى تالله لا تفتأ فتحذف لا في هذه الموضع من القسم لدلالة الكلام عليها فمن ذلك قول امرىء القيس: [الطويل]

فقلت يمين الله أبرح قاعداً ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

ومنه قول الآخر:

تالله يبقى على الأيام ذو حيد بمشمخر به الظيان والآس

أراد لا يبرح ولا يبقى، وقال الزجاجي: وقد تحذف أيضاً ما في هذا الموضع.
قال القاضي أبو محمد: وخطأه بعض النحويين، ومن المواضع التي حذفت فيها لا ويدل عليها الكلام قول الشاعر: [الطويل]

فلا وأبي دهماء زالت عزيزة على قومها ما قبل الزَّنْدَ قادِحُ

وقوله ما قبل الزند قادح يوجب أن المحذوف "لا"، وليست "ما"، وفتىء بمنزلة زال وبرح في المعنى والعمل، تقول: والله لا فتئت قاعداً كما تقول: لا زلت ولا برحت، ومنه قول أوس بن حجر: [الطويل]

فما فتئت حتى كأن غبارها سرادق يوم ذي رياح يرفَّع

و"الحرض": الذي قد نهكه الهرم أو الحب أو الحزن إلى حال فساد الأعضاء والبدن والحس، وعلى هذا المعنى قراءة الجمهور "حَرَضاً" بفتح الراء والحاء... وقرأ الحسن بن أبي الحسن بضمهما، وقرأت فرقة "حُرْضاً" بضم الحاء وسكون الراء. وهذا كله المصدر يوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والجمع بلفظ واحد، كعدل وعدو، وقيل في قراءة الحسن: انه يراد: فتات الأشنان أي بالياً متعتتاً، ويقال من هذا المعنى الذي هو شن الهم والهرم: رجل حارض، ويثنى هذا البناء ويجمع ويؤنث ويذكر، ومن هذا المعنى قول الشاعر: [البسيط]

إني امرؤ لجَّ بي حبٌّ فأحرضني حتى بليت وحتى شفني السقم

وقد سمع من العرب: رجل محرض، قال الشاعر - وهو امرؤ القيس: [الطويل]

أرى المرء ذا الأذواد يصبح محرضاً كأحراضِ بكر في الديار مريض

و"الحرض" - بالجملة - الذي فسد ودنا موته، قال مجاهد: "الحرض": ما دون الموت، قال قتادة: "الحرض": البالي الهرم، وقال نحو الضحاك والحسن، وقال ابن إسحاق: { حرضاً } معناه فاسد لا عقل له؛ فكأنهم قالوا على جهة التعنيف له: أنت لا تزال تذكر يوسف إلى حال القرب من الهلاك أو إلى الهلاك. فأجابهم يعقوب عليه السلام رادّاً عليهم: أي أني لست ممن يجزع ويضجر فيستحق التعنيف، وإنما أشكو إلى الله، ولا تعنيف في ذلك. و"البث" ما في صدر الإنسان مما هو معتزم أنه يبثه وينشره، وأكثر ما يستعمل "البث" في المكروه، وقال أبو عبيدة وغيره: "البث" أشد الحزن، وقد يستعمل "البث" في المخفي على الجملة ومنه قول المرأة في حديث أم زرع: ولا يولج الكف ليعلم "البث"، ومنه قولهم: أبثك حديثي.
وقرأ عيسى: "وحَزَني" بفتح الحاء والزاي.
وحكى الطبري بسند: أن يعقوب دخل على فرعون وقد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، فقال له فرعون: ما بلغ بك هذا يا إبراهيم؟ فقالوا: إنه يعقوب، فقال: ما بلغ بك هذا يا يعقوب؟ قال له: طول الزمان وكثرة الأحزان، فأوحى الله إليه: يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي؟ فقال: يا رب خطيئة فاغفرها لي، وأسند الطبري إلى الحسن قال: كان بين خروج يوسف عن يعقوب إلى دخول يعقوب على يوسف ثمانون سنة، لم يفارق الحزن قلبه، ولم يزل يبكي حتى كف بصره، وما في الأرض يومئذ أكرم على الله من يعقوب.
وقوله: { وأعلم من الله ما لا تعلمون } يحتمل أنه أشار إلى حسن ظنه بالله وجميل عادة الله عنده، ويحتمل أنه أشار إلى الرؤيا المنتظرة أو إلى ما وقع في نفسه عن قول ملك مصر: إني أدعو له برؤية ابنه قبل الموت، وهذا هو حسن الظن الذي قدمناه.