المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز
روي عن ابن عباس: أن { البشير } كان يهوذا لأنه كان جاء بقميص الدم.
قال القاضي أبو محمد: حدثني أبي رضي الله عنه قال: سمعت الواعظ أبا الفضل بن الجوهري
على المنبر بمصر يقول: إن يوسف عليه السلام لما قال: { { اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي } }
[يوسف: 93] قال يهوذا لإخوته: قد علمتم أني ذهبت إليه بقميص الترحة فدعوني أذهب إليه بقميص
الفرحة؛ فتركوه وذلك. وقال هذا المعنى السدي. و { ارتد } معناه: رجع هو، يقال: ارتد الرجل ورده
غيره، و { بصيرا } معناه: مبصراً، ثم وقفهم على قوله: { إني أعلم من الله ما لا تعلمون } وهذا - والله
أعلم - هو انتظاره لتأويل الرؤيا - ويحتمل أن يشير إلى حسن ظنه بالله تعالى فقط.
وروي: أنه قال للبشير: على أي دين تركت يوسف؟ قال: على الإسلام قال: الحمد لله، الآن
كملت النعمة.
وفي مصحف ابن مسعود: "فلما أن جاء البشير من بين يدي العير"، وحكى الطبري عن بعض
النحويين أنه قال: { أن } في قوله: { فلما أن جاء البشير } زائدة، والعرب تزيدها أحياناً في الكلام بعد لما
وبعد حتى فقط، تقول: لما جئت كان كذا، ولما أن جئت، وكذلك تقول: ما قام زيد حتى قمت، وحتى
أن قمت.
وقوله: { قالوا: يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا } الآية، روي أن يوسف عليه السلام لما غفر لإخوته،
وتحققوا أيضاً أن يعقوب يغفر لهم، قال بعضهم لبعض: ما يغني عنا هذا إن لم يغفر الله لنا؟! فطلبوا
- حينئذ - من يعقوب أن يطلب لهم المغفرة من الله تعالى، واعترفوا بالخطأ، فقال لهم يعقوب: { سوف
أستغفر }، فقالت فرقة: سوفهم إلى السحر، وروي عن محارب بن دثار أنه قال: كان عم لي يأتي
المسجد فسمع إنساناً يقول: اللهم دعوتني فأجبت وأمرتني فأطعت، وهذا سحر فاغفر لي، فاستمع
الصوت فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود، فسئل عبد الله بن مسعود عن ذلك، فقال: إن يعقوب عليه
اسلام أخر بنيه إلى السحر، ويقوي هذا التأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربنا كل ليلة إذا
كان الثلث الآخر إلى سماء الدنيا فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له؟" الحديث.
ويقويه قوله تعالى: { { والمستغفرين بالأسحار } [آل عمران: 17]. وقالت فرقة: إنما سوفهم يعقوب إلى
قيام الليل، وقالت فرقة - منهم سعيد بن جبير - سوفهم يعقوب إلى الليالي البيض، فان الدعاء فيهن
يستجاب وقيل: إنما أخرهم إلى ليلة الجمعة، وروى ابن عباس هذا التأويل عن النبي صلى الله عليه وسلم،
قال: "أخرهم يعقوب حتى تأتي له الجمعة" .
ثم رجاهم يعقوب عليه السلام بقوله: { إنه هو الغفور الرحيم }.
وقوله: { فلما دخلوا } الآية، ها هنا محذوفات يدل عليها الظاهر، وهي: فرحل يعقوب بأهله
أجمعين وساروا حتى بلغوا يوسف، فلما دخلوا عليه.
و { آوى } معناه: ضم وأظهر الحماية بهما، وفي الحديث: "أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله" .
وقيل: أراد "بالأبوين": أباه وأمه - قاله ابن إسحاق والحسن - وقال بعضهم: أباه وجدته - أم أمه - حكاه
الزهراوي - وقيل: أباه وخالته، لأن أمه قد كانت ماتت - قاله السدي -.
قال القاضي أبو محمد: والأول أظهر - بحسب اللفظ - إلا لو ثبت بسند أن أمه قد كانت ماتت.
وفي مصحف ابن مسعود: "آوى إليه أبويه وإخوته". وقوله: { ادخلوا مصر } معناه: تمكنوا واسكنوا
واستقروا، لأنهم قد كانوا دخلوا عليه، وقيل: بل قال لهم ذلك في الطريق حين تلقاهم - قاله السدي - وهذا الاستثناء هو الذي ندب القرآن إليه، أن يقوله الإنسان في جميع ما ينفذه بقوله في المستقبل، وقال
ابن جريج: هذا مؤخر في اللفظ وهو متصل في المعنى بقوله: { سوف أستغفر لكم }.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا التأويل ضعف.
و { العرش }: سرير الملك، وكل ما عرش فهو عريش وعرش، وخصصت اللغة العرش لسرير
الملك، و { خرجوا } معناه: تصوبوا إلى الأرض، واختلف في هذا السجود، فقيل: كان كالمعهود عندنا
من وضع الوجه بالأرض، وقيل: بل دون ذلك كالركوع البالغ ونحوه مما كان سيرة تحياتهم للملوك في ذلك
الزمان، وأجمع المفسرون أن ذلك السجود - على أي هيئة كان - فإنما كان تحية لا عبادة. قال قتادة: هذه
كانت تحية الملوك عندهم. وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة. وقال الحسن: الضمير في { له }
لله عز وجل.
قال القاضي أبو محمد: ورد على هذا القول.
وحكى الطبري: أن يعقوب لما بلغ مصر في جملته كلم يوسف فرعون في تلقيه فخرج إليه وخرج
الملوك معه فلما دنا يوسف من يعقوب وكان يعقوب يمشي متوكئاً على يهوذا - قال: فنظر يعقوب إلى الخيل
والناس فقال: يا يهوذا، هذا فرعون مصر، قال: لا هو ابنك، قال: فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه
ذهب يوسف يبدأ بالسلام، فمنعه يعقوب من ذلك وكان يعقوب أحق بذلك منه وأفضل، فقال: السلام
عليك يا مذهب الأحزان.
قال القاضي أبو محمد: ونحو هذا من القصص، وفي هذا الوقت قال يوسف ليعقوب: إن فرعون قد
أحسن إلينا فادخل عليه شاكراً، فدخل عليه، فقال فرعون: يا شيخ ما مصيرك إلى ما أرى؟ قال: تتابع
البلاء عليّ. قال: فما زالت قدمه حتى نزل الوحي: يا يعقوب، أتشكوني إلى من لا يضرك ولا ينفعك؟ قال:
يا رب ذنب فاغفره. وقال أبو عمرو الشيباني: تقدم يوسف يعقوب في المشي في بعض تلك المواطن فهبط
جبريل فقال له: أتتقدم أباك؟ إن عقوبتك لذلك ألا يخرج من نسلك نبي.