التفاسير

< >
عرض

وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ يُغْشِى ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
٣
وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلأُكُلِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
٤
-الرعد

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

لما فرغت الآيات من ذكر السماوات ذكرت آيات الأرض.
وقوله: { مد الأرض } يقتضي أنها بسيطة لا كرة - وهذا هو ظاهر الشريعة وقد تترتب لفظة المد والبسط مع التكوير والله أعلم. و"الرواسي" الجبال الثابتة، يقال: رسا يرسو، إذا ثبت، ومنه قول الشاعر: [الطويل]

به خالدات ما يرمن وهامد وأشعث أرسته الوليدة بالفهر

و"الزوج" - في هذه الآية - الصنف والنوع، وليس بالزوج المعروف بالمتلازمين الفردين من الحيوان وغيره، ومنه قوله تعالى: { { سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون } [يس: 36] ومثل هذه الآية: { { والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج } [ق: 7].
وهذه الآية تقتضي أن كل ثمرة فموجود منها نوعان، فإن اتفق أن يوجد في ثمرة أكثر من نوعين فغير ضار في معنى الآية.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم "يغْشي" بسكون الغين وتخفيف الشين، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم - في رواية أبي بكر - بفتح الغين وتشديد الشين، وكفى ذكر الواحد ذكر الآخر، وباقي الآية بين.
قال القاضي أبو محمد: ويشبه أن الأزواج التي يراد بها الأنواع والأصناف والأجناس إنما سميت بذلك من حيث هي اثنان، اثنان، ويقال: إن في كل ثمرة ذكر وأنثى، وأشار إلى ذلك الفراء عند المهدوي، وحكى عنه غيره ما يقتضي أن المعنى تم في قوله: { الثمرات } ثم ابتدأ أنه جعل في الأرض من كل ذكر وأنثى زوجين.
وقوله تعالى: { وفي الأرض قطع... } الآية، "القطع": جمع قطعة وهي الأجزاء، وقيد منها في هذا المثال ما جاور وقرب بعضه من بعض، لأن اختلاف ذلك في الأكل أغرب.
وقرأ الجمهور "وجناتٌ" بالرفع، عطفاً على { قطع } ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن "وجناتٍ" بالنصب بإضمار فعل، وقيل: هو عطف على { رواسي } ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص - عن عاصم - "وزرعٌ ونخيلٌ صنوانٌ وغيرُ" بالرفع في الكل - عطفاً على { قطع } - وقرأ الباقون: "وزرعٍ" بالخفض في الكل - عطفاً على { أعناب } وجعل الجنة من الأعناب من رفع الزرع.
و"الجنة" حقيقة إنما هي الأرض التي فيها الأعناب وفي ذلك تجوز ومنه قول الشاعر: [زهير بن أبي سلمى] [البسيط]

كأن عيني في غربي مقتلة من النواضح تسقي جنة سحقا

أي نخيل جنة، إذ لا توصف بالسحق إلا النخل، ومن خفض "الزرع" فـ "الجنات" من مجموع ذلك لا من الزرع وحده، لأنه لا يقال للمزرعة جنة إلا إذا خالطتها شجرات.
و { صنوان } جمع صنو، وهو الفرع يكون مع الآخر في أصل واحد، وربما كان أكثر من فرعين، قال البراء بن عازب: الصنوان: المجتمع، "وغير الصنوان" المتفرق فرداً فرداً، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"العم صنو الأب" . وروي أن عمر بن الخطاب أسرع إليه العباس في ملاحاة فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أردت يا رسول الله أن أقول يا رسول الله لعباس، فذكرت مكانك منه فسكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يرحمك الله يا عمر العم صنو الأب" . وفي كتاب الزكاة من صحيح مسلم أنه قال: "يا عمر أما شعرت أن العم صنو الأب" وجمع الصنو صنوان، وهو جمع مكسر، قال أبو علي: وكسرة الصاد في الواحد ليست التي في الجمع، وهو جار مجرى فلك. وتقول: صنو وصنوان في الجمع بتنوين النون وإعرابه.
وقرأ عاصم - في رواية القواس عن حفص - "صُنوان" بضم الصاد قال أبو علي: هو مثل ذئب وذؤبان.
قال القاضي أبو محمد: وهي قراءة ابن مصرف وأبي عبد الرحمن السلمي، وهي لغة تميم وقيس، وكسر الصاد هي لغة أهل الحجاز، وقرأ الحسن وقتادة "صَنوان" بفتح الصاد وهو اسم جمع لا جمع ونظير هذه الللفظة: قنو وقنوان، وإنما نص على "الصنوان" في هذه الآية لأنها بمثابة التجاوز في القطع، تظهر فيه غرابة اختلاف الأكل.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي والحسن وأبو جعفر وأهل مكة: "تسقى" بالتاء، وأمال حمزة والكسائي القاف. وقرأ عاصم وابن عامر "يسقى" بالياء، على معنى يسقى ما ذكر. وقرأ الجمهور "نفضل" بالنون وقرأ حمزة والكسائي "ويفضل" بالياء، وقرأ ابن محيصن: "يسقى بماء واحد، ويفضل" بالياء فيهما، وقرأ يحيى بن يعمر وأبو حيوة "ويفضَّل" بالياء وفتح الضاد "بعضُها" بالرفع، قال أبو حاتم: وجدته كذلك في نقط يحيى بن يعمر في مصحفه - وهو أول من نقط المصاحف.
و { الأكل } اسم ما يؤكل، بضم الهمزة، والأكل المصدر.
وقرأت فرقة "في الأُكُل" بضم الهمزة والكاف، وقد تقدم هذا في البقرة وحكى الطبري عن غير واحد - ابن عباس وغيره - { قطع متجاورات } أي واحدة سبخة، وأخرى عذبة، ونحو هذا من القول، وقال قتادة المعنى: قرى متجاورات.
قال القاضي أبو محمد: وهذا وجه من العبرة كأنه قال: وفي الأرض قطع مختلفات بتخصيص الله لها بمعانٍ فهي "تسقى بماء واحد"، ولكن تختلف فيما تخرجه والذي يظهر من وصفه لها بالتجاور إنما هو أنها من تربة واحدة ونوع واحد، وموضع العبرة في هذا أبين لأنها مع اتفاقها في التربة والماء، تفضل القدرة والإرادة بعض أكلها على بعض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم - حين سئل عن هذه الآية - فقال:
"الدقل والفارسي والحلو والحامض" . وعلى المعنى الأول قال الحسن: هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم: كانت الأرض في يد الرحمن طينة واحدة فسطحها فصارت قطعاً متجاورة فينزل عليها ماء واحد من السماء - فتخرج هذه زهرة وثمرة، وتخرج هذه سبخة وملحاً وخبثاً، فكذلك الناس: خلقوا من آدم فنزلت عليهم من السماء تذكرة -فرقت قلوب وخشعت، وقست قلوب ولهت وجفت: قال الحسن: فوالله ما جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، قال الله تعالى: { { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً } [الإسراء: 82].
والتفضيل في الأكل الأذواق والألوان والملمس وغير ذلك.