التفاسير

< >
عرض

وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ ٱلأَمْثَالَ
٤٥
وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ٱلْجِبَالُ
٤٦
فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ
٤٧
يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ
٤٨
-إبراهيم

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

يقول عز وجل: { وسكنتم } أيها المعرضون عن آيات الله من جميع العالم { في مساكن الذين ظلموا أنفسهم } بالكفر من الأمم السالفة، فنزلت بهم المثلات، فكان نولكم الاعتبار والاتعاظ.
وقرأ الجمهور "وتبين" بتاء. وقرأ السلمي - فيما حكى المهدوي - "ونُبين" بنون عظمة مضمومة وجزم، على معنى: أو لم يبين، عطف على
{ { أو لم تكونوا } [إبراهيم: 44] قال أبو عمرو: وقرأ أبو عبد الرحمن: بضم النون ورفع النون الأخيرة.
وقوله: { وعند الله مكرهم } هو على حذف مضاف تقديره: وعند الله عقاب مكرهم أو جزاء مكرهم، ويحتمل قوله تعالى: { وقد مكروا مكرهم } أن يكون خطاباً لمحمد عليه السلام، والضمير لمعاصريه، ويحتمل أن يكون مما يقال للظلمة يوم القيامة والضمير للذين سكن في منازلهم.
وقرأ السبعة سوى الكسائي: "وإن كان مكرهم لِتزولَ منه الجبال" بكسر اللام من { لتزول } وفتح الأخيرة، وهي قراءة علي بن أبي طالب وجماعة سكنوا وهذا على أن تكون "إن" نافية بمعنى ما، ومعنى الآية: تحقير مكرهم وأنه ما كان لتزول منه الشرائع والنبوات وأقدار الله بها التي هي كالجبال في ثبوتها وقوتها، هذا تأويل الحسن وجماعة من المفسرين، وتحتمل عندي هذه القراءة أن تكون بمعنى تعظيم مكرهم، أي وإن كان شديداً إنما يفعل لتذهب به عظام الأمور.
وقرأ الكسائي: "وإن كان مكرهم لَتزولُ منه الجبال" بفتح اللام الأولى من { لتزول } وضم الأخيرة، وهي قراءة ابن عباس ومجاهد وابن وثاب، وهذا على أن تكون "إن" مخففة من الثقيلة، ومعنى الآية تعظيم مكرهم وشدته، أي أنه مما يشقى به ويزيل الجبال عن مستقراتها لقوته، ولكن الله تعالى أبطله ونصر أولياءه، وهذا أشد في العبرة.
وقرأ علي بن أبي طالب وابن مسعود وعمر بن الخطاب وأبي بن كعب "وإن كاد مكرهم"، ويترتب مع هذه القراءة في { لتزول } ما تقدم. وذكر أبو حاتم أن في قراءة أبي بن كعب "ولولا كلمة الله لزال من مكرهم الجبال". وحكى الطبري عن بعض المفسرين أنهم جعلوا هذه الآية إشارة إلى ما فعل نمرود إذ علق التابوت من الأنسر، ورفع لها اللحم في أطراف الرماح بعد أن أجاعها ودخل هو وحاجبه في التابوت، فعلت بهما الأنسر حتى قال له نمرود: ماذا ترى؟ قال: أرى بحراً وجزيرة - يريد الدنيا المعمورة - ثم قال: ماذا ترى؟ قال: أرى غماماً ولا أرى جبلاً، فكأن الجبال زالت عن نظر العين بهذا المكر، وذكر ذلك عن علي بن أبي طالب. وذلك عندي لا يصح عن علي رضي الله عنه، وفي هذه القصة كلها ضعف من طريق المعنى، وذلك أنه غير ممكن أن تصعد الأنسر كما وصف، وبعيد أن يغرر أحد بنفسه في مثل هذا.
وقوله: { فلا تحسبن الله } الآية، تثبيت للنبي عليه السلام ولغيره من أمته، ولم يكن النبي عليه السلام ممن يحسب مثل هذا، ولكن خرجت العبارة هكذا، والمراد بما فيها من الزجر من شارك النبي عليه السلام في أن قصد تثبيته.
وقرأ جمهور الناس "مخلف وعده" بالإضافة، "رسلَه" بالنصب، وإضافة "مخلف" إلى الوعد، إذ للإخلاف تعلق بالوعد على تجوز، وإنما حقيقة تعلقه بالرسل، وهذا نحو قول الشاعر: [الطويل]

ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه وسائره باد إلى الشمس أجمع

وكقولك: هذا معطي درهم زيداً. وقرأت فرقة: "مخلف وعدَه رسلِه" بنصب الوعد وخفض الرسل، على الإضافة، وهذه القراءة ذكرها الزجاج وضعفها، وهي تحول بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، وهي كقول الشاعر: [مجزوء الكامل]

فزججتها بمزجّة زج القلوص أبي مزادة

وأما إذا حيل في نحو هذا بالظرف فهو أشهر في الكلام كما قال الشاعر:

لله در اليوم من لامها

وقال آخر: [الوافر]

كما خط الكتاب بكفِّ يوماً يهوديٍّ يقارب أو يزيل

والمعنى: لا تحسب يا محمد - أنت ومن اعتبر بالأمر من أمتك وغيرهم - أن الله لا ينجز ميعاده في نصره رسله، وإظهارهم، ومعاقبة من كفر بهم، في الدنيا أو في الآخرة، فإن الله عزيز لا يمتنع منه شيء، ذو انتقام من الكفرة لا سبيل إلى عفوه عنهم.
وقوله: { يوم تبدل الأرض } الآية، { يوم } ظرف للانتقام المذكور قبله. ورويت في "تبديل الأرض" أقوال، منها في الصحيح: أن الله يبدل هذه الأرض بأرض عفراء بيضاء كأنها قرصة نقي، وفي الصحيح: أن الله يبدلها خبزة يأكل المؤمن منها من تحت قدميه. وروي أنها تبدل أرضاً من فضة. وروي: أنها أرض كالفضة من بياضها. وروي أنها تبدل من نار. وقال بعض المفسرين: تبديل الأرض: هو نسف جبالها وتفجير بحارها وتغييرها حتى لا يرى فيها عوج ولا أمت: فهذه حال غير الأولى، وبهذا وقع التبديل.
قال القاضي أبو محمد: وسمعت من أبي رضي الله عنه: أنه روي: أن التبديل يقع في الأرض، ولكن يبدل لكل فريق بما تقتضيه حاله، فالمؤمن يكون على خبز يأكل منه بحسب حاجته إليه، وفريق يكون على فضة - إن صح السند بها - وفريق الكفرة يكونون على نار. ونحو هذا مما كله واقع تحت قدرة الله تعالى.
وأكثر المفسرين على أن التبديل يكون بأرض بيضاء عفراء لم يعص الله فيها. ولا سفك فيها دم، وليس فيها معلم لأحد، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"المؤمنون وقت التبديل في ظل العرش" ، وروي عنه أنه قال: "الناس وقت التبديل على الصراط" ، وروي أنه قال "الناس حينئذ أضياف الله فلا يعجزهم ما لديه" .
و { برزوا } مأخوذ من البراز، أي ظهروا بين يديه لا يواريهم بناء ولا حصن. وقوله: { الواحد القهار } صفتان لائقتان بذكر هذه الحال.