التفاسير

< >
عرض

ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ
١٢٥
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ
١٢٦
وَٱصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ
١٢٧
إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ
١٢٨
-النحل

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

هذه الآية نزلت بمكة في وقت الأمر بمهادنة المشركين، أمره الله تعالى أن يدعو إلى الله وشرعه بتلطف، وهو أن يسمع المدعو حكمه، وهو الكلام الصواب القريب الواقع في النفس أجمل موقع، { والموعظة الحسنة } التخويف والترجية والتلطف بالإنسان بأن يحله ويبسطه ويجعله بصورة من يقبل الفضائل، ونحو هذا، فهذه حالة من يُدعَى وحالة من يجادَل دون مخاشنة، ويبين عليه دون قتال، فالكلام يعطي أن جدك وهمك وتعبك لا يغني لأن الله تعالى قد علم من يؤمن منهم ويهتدي، وعلم من يضل، فجملة المعنى اسلك هذا السبيل ولا تعن للمخاشنة لأنها غير مجدية لأن علم الله قد سبق بالمهتدي منهم والضال، وقالت فرقة: هذه الآية منسوخة بآية القتال، وقالت فرقة هي محكمة.
قال القاضي أبو محمد: ويظهر لي أن الاقتصار على هذه الحال وأن لا تتعدى مع الكفرة متى احتيج إلى المخاشنة هو منسوخ لا محالة، وأما من أمكنت معه هذه الأحوال من الكفار ورجي إيمانه بها دون قتال فهي محكمة إلى يوم القيامة، وأيضاً فهي محكمة في جهة العصاة، فهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة. وقوله { وإن عاقبتم فعاقبوا } الآية، أطبق أهل التفسير أن هذه الآية مدنية نزلت في شأن التمثيل بحمزة في يوم أحد، ووقع ذلك في صحيح البخاري، وفي كتاب السير وذهب النحاس إلى أنها مكية.
قال القاضي أبو محمد: والمعنى متصل بما قبلها من المكي اتصالاً حسناً لأنها تتدرج الرتب من الذي يدعى ويوعظ إلى الذي يجادل إلى الذي يجازى على فعله، ولكن ما روى الجمهور أثبت، وأيضاً فقوله { ولئن صبرتم } يقلق بمعنى الآية على ما روى الجميع أن كفار قريش كما مثلوا بحمزة فنال ذلك من نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال
"لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بثلاثين" ، وفي كتاب النحاس وغيره "بتسعين" منهم فقال الناس: "إن ظفرنا لنفعلن ولنفعلن"، فنزلت هذه الآية، ثم عزم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصبر في الآية بعدها، وسمى الإذناب في هذه الآية عقوبة، والعقوبة حقيقة إنما هي الثانية وإنما فعل ذلك ليستوي اللفظان وتتناسب ديباجة القول، وهذا بعكس قوله { { مكروا ومكر الله } } [آل عمران: 54]، وقوله { { الله يستهزىء بهم } [البقرة: 15]، فان الثاني هو المجاز، والأول هو الحقيقة، وقرأ ابن سيرين: "وإن عقَبتم فعقبوا"، وحكى الطبري عن فرقة: أنها قالت إنما نزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة أن لا ينال من ظالمه إذا تمكن إلا مثل ظلامته لا يتعداه إلى غيره، واختلف أهل العلم فيمن ظلمه رجل في أخذ مال ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال تجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه، فقالت فرقة: له ذلك، منهم ابن سيرين وإبراهيم النخعي وسفيان ومجاهد، واحتجت بهذه الآية وعموم لفظها، وقال مالك وفرقة معه: لا يجوز له ذلك، واحتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أدِّ الأمانة إلى من استأمنك ولا تخن من خانك" .
قال القاضي أبو محمد: ووقع في مسند ابن سنجر أن هذا الحديث إنما ورد في رجل زنا بامرأة رجل آخر ثم تمكن الآخر من زوجة الثاني بأن تركها عنده وسافر، فاستشار الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" ، ويتقوى في أمر المال قول مالك رحمه الله، لأن الخيانة لاحقة في ذلك وهي رذيلة لا انفكاك عنها، ولا ينبغي للمرء أن يتأسى بغيره في الرذائل، وإنما ينبغي أن تتجنب لنفسها، وأما الرجل يظلم في المال ثم يتمكن من الانتصاف دون أن يؤتمن فيشبه أن ذلك له جائز يرى أن الله حكم له كما لو تمكن له بالحكم من الحاكم، وقوله: { واصبر وما صبرك إلا بالله } الآية، هذه العزيمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصبر عن المجازاة في التمثيل بالقتلى، قال ابن زيد: هذه الآية منسوخة بالقتال وجمهور الناس على أنها محكمة، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: "أما أنا فأصبر كما أمرت فماذا تصنعون؟" ، قالوا: نصبر يا رسول الله كما ندبنا، وقوله: { وما صبرك إلا بالله } أي بمعونة الله وتأييده لك على ذلك، والضمير في قوله { عليهم } قيل يعود على الكفار أي لا تتأسف على أن لم يسلموا، وقالت فرقة: بل يعود على القتلى: حمزة وأصحابه الذين حزن عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأول أصوب يكون عود الضمير على جهة واحدة، وقرأ الجمهور في "ضَيْق" بفتح الضاد، وقرأ ابن كثير في "ضِيق" بكسر الضاد ورويت عن نافع وهو غلط ممن رواه، قال بعض اللغويين: الكسر والفتح في الضاد لغتان في المصدر وقال أبو عبيدة: الضِيق مصدر والضَّيْق مخفف من ضيِّق كميْت وميت، وهيْن وهيِّن، قال أبو علي الفارسي: والصواب أن يكون الضيْق لغة في المصدر لأنه إن كان مخففاً من ضيِّق لزم أن تقام الصفة مقام الموصوف، وليس هذا موضع ذلك.
قال القاضي أبو محمد: الصفة إنما تقوم مقام الموصوف إذا تخصص الموصوف من نفس الصفة، كما تقول رأيت ضاحكاً فإنما تخصص الإنسان، ولو قلت: رأيت بارداً لم تحسن، وببارد مثل سيبويه رحمه الله "وضيق" لا يخصص الموصوف، وقال ابن عباس وابن زيد: إن ما في هذه الآية من الأمر بالصبر منسوخ، وقوله: { مع الذين } أي بالنصر والمعونة والتأييد، و { اتقوا } يريد المعاصي، و { محسنون } معناه يتزيدون فيما ندب إليه من فعل الخير.
كمل تفسير سورة النحل بعون الله وتأييده
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم