التفاسير

< >
عرض

أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ٱللَّهُ بِهِمُ ٱلأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ
٤٥
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ
٤٦
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ
٤٧
أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَٱلْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ
٤٨
-النحل

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

هذه الآية تهديد لأهل مكة، وهم المراد بـ { الذين } في قول الأكثر، وقال مجاهد: المراد نمرود بن كنعان، والأول أظهر، ونصب { السيئات } يحتمل وجهين: أحدهما أن ينصب بقوله { أفأمن } وتكون { السيئات } على هذا العقوبات التي تسوء من تنزل به، ويكون قوله { أن يخسف } بدلاً منها. والوجه الثاني أن ينصب بـ { مكروا }، وعدي { مكروا } لأنه بمعنى عملوا وفعلوا، و { السيئات } على هذا معاصي الكفر وغيره، قاله قتادة، ثم توعدهم بما أصاب الأمم قبلهم من الخسف، وهو أن تبتلع الأرض المخسوف به ويقعد به إلى أسفل وأسند النقاش، أن قوماً في هذه الأمة، أقيمت الصلاة فتدافعوا الإمامة وتصلفوا في ذلك فما زالوا كذلك حتى خسف بهم، و { تقلبهم } سفرهم ومحاولتهم المعايش بالسفر والرعاية ونحوها، و"المعجز" المفلت هرباً كأنه عجز طالبه، وقوله { على تخوف } أي على جهة التخوف، والتخوف النقص ومنه قول الشاعر: [البسيط]

تخوف السير منها تامكاً فرداً كما تخوف عود النبعة السفن

والسفن المبرد ويروى أن عمر بن الخطاب خفي عليه معنى "التخوف" في هذه الآية، وأراد الكتب إلى الأمصار يسأل عن ذلك، حتى سمع هذا البيت، ويروى أنه جاءه فتى من العرب وهو قد أشكل عليه أمر لفظة "التخوف"، فقال له يا أمير المؤمنين: إن أبي يتخوفني مالي، فقال عُمر: الله كبر { أو يأخذهم على تخوف }، ومنه قول طرفة:

وجامل خوف من نبيه زجرُ المعلى أبداً والسفيح

ويروى من نبته، ومنه قول الآخر: [الوافر]

ألأم على الهجاء وكل يوم تلاقيني من الجيران غول
تخوف غدرهم مالي وهدي سلاسل في الحلوق لها صليل

يريد الأهاجي، ومنه قول النابغة: [الطويل]

تخوفهم حتى أذل سراتهم بطعن ضرار بعد قبح الصفائح

قال القاضي أبو محمد: وهذا التنقص يتجه الوعيد به على معنيين: أحدهما أن يهلكهم ويخرج أرواحهم على تخوف أي أفذاذاً ينقصهم بذلك الشيء بعد الشيء، وهذا لا يدعي أحد أنه يأمنه، وكأن هذا الوعيد إنما يكون بعذاب ما يلقون بعد الموت، وإلا فبهذا تهلك الأمم كلها، ويؤيد هذا قوله { فإن ربكم لرؤوف رحيم } أي إن هذه الرتبة الثالثة من الوعيد، فيها رأفة ورحمة وإمهال ليتوب التائب ويرجع الراجع: والآخر أن يأخذ بالعذاب طائفة أو قرية ويترك أخرى، ثم كذلك حتى يهلك الكل، وقالت فرقة: "التخوف" هنا من الخوف أي يأخذهم بعد تخوف ينالهم فيعذبهم به.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا القول تكلف ما، وقوله { أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء } الآية، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر "أو لم يروا" بالياء على لفظ الغائب، وكذلك في العنكبوت، فهي جارية على قوله: { أو يأخذهم }، وقوله: { أو يأتيهم } وقوله: { لا يشعرون }، ورجحها الطبري، وقرأ حمزة والكسائي "أولم تروا" بالتاء في الموضعين، وهي قراءة الحسن والأعرج وأبي عبد الرحمن، وذلك يحتمل من المعنى وجهين أحدهما: أن يكون على معنى قل لهم يا محمد أولم تروا، والوجه الآخر أن يكون خطاباً عاماً لجميع الخلق ابتدأ به القول آنفاً، وقرأ عاصم في النحل بالتاء من فوق، واختلف عنه في العنكبوت، وقوله { من شيء } لفظ عام في كل ما اقتضته الصفة في قوله { يتفيأ ظلاله } لأن ذلك صفة لما عرض العبرة في جميع الأشخاص التي لها ظل، والرؤية هنا هي رؤية القلب، ولكن الاعتبار برؤية القلب إنما تكون في مرئيات بالعين، وقرأ أبو عمرو وحده "تتفيأ" بالتاء من فوق، وهي قراءة عيسى ويعقوب، وقرأ الجمهور "يتفيأ"، قال أبو علي: إذا تقدم الفعل المنسوب إلى مثل هذا الجمع فالتذكير والتأنيث فيه حسنان، وفاء الظل رجع بعكس ما كان إلى الزوال، وذلك أن الشمس من وقت طلوعها إلى وقت الزوال إنما هي في نسخ الظل العام قبل طلوعها، فإذا زالت ابتدأ رجوع الظل العام، ولا يزال ينمو حتى تغيب الشمس، فيعم، والظل الممدود في الجنة لم يذكر الله فيئه لأنه لم يرجع بعد أن ذهب، وكذلك قول حميد بن ثور:

فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ولا الفيء من برد العشي تذوق

فهو على المهيع، وكذلك قول علقمة بن عبدة: [الطويل]

تَتَبع أفياء الظلال عشية على طرق كأنهن سيوف

وكذلك قول امرىء القيس:

يفيء عليها الظل

وأما النابغة الجعدي فقال: [الخفيف]

فسلام الإله يغدو عليهم وفيء الفردوس ذات الظلال

فتجوز في أن جعل الفيء حيث لا رجوع، وقال رؤبة بن العجاج: يقال بعد الزوال فيء وظل، ولا يقال قبله إلا ظل فقط، ويقال فاء الظل أي رجع من النقصان إلى الزيادة، ويعدى فاء بالهمزة كقوله تعالى: { { ما أفاء الله } [الحشر: 7] ويعدى بالتضعيف فيقال أفاءه الله وفياه الله وتفيأ مطاوع فيا، ولا يقال الفيء إلا من بعد الزوال في مشهور كلام العرب، لكن هذه الآية الاعتبار فيها من أول النهار إلى آخره، فكأن الآية جارية في بعض التأويلات على تجوز كلام العرب واقتضائه وضع تتفيأ مكان تتنقل وتميل، وأضاف الظلال إلى ضمير مفرد حملاً على لفظ ما أو لفظ شيء، وهو في المعنى لجمع، وقرأ الثقفي "ظُلَلُه" بفتح اللام الأولى وضم الثانية وضم الظاء، وقوله { عن اليمين والشمائل } أفرد اليمين وهو يراد به الجمع، فكأنه للجنس، والمراد عن الأيمان والشمائل، كما قال الشاعر: [جرير]

الواردون ونِيمٌ في ذرى سبأ قد عض أعناقهم جلد الجواميس

وكما قال الآخر:

ففي الشامتين الصخر إن كان هدني رزية شبلي مخدر في الضراغم

والمنصوب للعبرة في هذه الآية هو كل شخص وجرم له ظل كالجبال والشجر وغير ذلك، والذي يترتب فيه أيمان وشمائل إنما هو البشر فقط، لكن ذكر الأيمان والشمائل هنا على جهة الاستعارة لغير البشر، أي تقدره ذا يمين وشمال، وتقدره يستقبل أي جهة شئت، ثم تنظر فيه فتراه يميل إما إلى جهة اليمين وإما إلى جهة الشمال، وذلك في كل أقطار الدنيا، فهذا وجه يعمم لك ألفاظ الآية، وفيه تجوز واتساع، ومن ذهب إلى أن { اليمين } من غدوة النهار إلى الزوال ثم يكون من الزوال إلى المغيب عن الشمال، وهو قول قتادة وابن جريج، فإنما يترتب له ذلك فيما قدره مستقبل الجنوب، والاعتبار في هذه الآية عندي إنما هو المستقبل الجنوب، وما قال بعض الناس من أن { اليمين } أول وقعة للظل بعد الزوال، ثم الآخر إلى الغروب هي عن الشمال، ولذلك جمع { الشمائل }، وأفرد { اليمين }، فتخليط من القول يبطل من جهات، وقال ابن عباس إذا صليت الفجر كان ما بين مطلع الشمس إلى مغربها ظلاً، ثم بعث الله الشمس عليه دليلاً فقبض إليه الظل.
قال القاضي أبو محمد: فعلى هذا فأول ذرور الشمس فالظل عن يمين مستقبل الجنوب ثم يبدأ الانحراف فهو عن الشمائل لأنها حركات كثيرة، وظلال متقطعة، فهي شمائل كثيرة، وكأن الظل عن اليمين متصلاً واحداً عاماً لكل شيء، وفي هذا القول تجوز في تفيأ، وعلى ما قدرنا من استقبال الجنوب يكون الظل أبداً مندفعاً عن اليمين إلى الزوال، فإذا تحرك بعد فارق الأيمان جملة وصار اندفاعه عن الشمائل، وقالت فرقة "الظلال" هنا الأشخاص هي المراد أنفسها، والعرب تعبر أحياناً عن الأشخاص بالظل، ومنه قول عبدة بن الطيب: [البسيط]

إذا نزلنا نصبنا ظل أخبية وفار للقوم باللحم المراجيل

وإنما تنصب الأخبية، ومنه قول الآخر: [الطويل]

تتبع أفياء الظلال عشية

أي أفياء الأشخاص.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله محتمل غير صريح، وإن كان أبو علي قد قدره، واختلف المتأولون في هذا السجود فقالت فرقة هو سجود عبادة حقيقة، وذكر الطبري عن الضحاك قال إذا زالت الشمس سجد كل شيء قبل القبلة من نبت أو شجر، ولذلك كان الصالحون يستحبون الصلاة في ذلك الوقت، وقال مجاهد إنما تسجد الظلال لا الأشخاص وقالت فرقة، منهم الطبري عبر عن الخضوع والطاعة وميلان الظل ودورانها بالسجود، وكما يقال للمشير برأسه على جهة الخضوع والطاعة وميلان الظل ساجد ومنه قول الشاعر: [الطويل]

فكلتاهما خرت وأسجد رأسها كما سجدت نصرانة لم تحنف

والداخر المتصاغر المتواضع، ومنه قول ذي الرمة: [الطويل]

فلم يبق إلا داخر في مُخَيِّس ومنجحر في غير أرضك في حجر