التفاسير

< >
عرض

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ
٤٩
يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ
٥٠
وَقَالَ ٱللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَٱرْهَبُونِ
٥١
وَلَهُ مَا فِي ٱلْسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ
٥٢
وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ
٥٣
ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ
٥٤
لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
٥٥
-النحل

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

وقعت { ما } في هذه الآية لما يعقل، قال الزجاج: قوله { ما في السماوات } يعم ملائكة السماء وما في السحاب وما في الجو من حيوان، وقوله { وما في الأرض من دابة } بين، ثم ذكر ملائكة الأرض في قوله { والملائكة } ويحتمل أن يكون قوله: { والملائكة } هو الذي يعم "السماوات والأرض"، وما قبل ذلك لا يدخل فيه ملك، إنما هو للحيوان أجمع، وقوله { يخافون ربهم } عام لجميع الحيوان، وقوله { من فوقهم } يحتمل معنيين: أحدهما الفوقية التي يوصف بها الله تعالى فهي فوقية القدر والعظمة والقهر والسلطان، والآخر أن يتعلق قوله { من فوقهم } بقوله { يخافون } ، أي يخافون عذاب ربهم من فوقهم، وذلك أن عادة عذاب الأمم إنما أتى من جهة فوق، وقوله { ويفعلون ما يؤمرون } أما المؤمنون فبحسب الشرع والطاعة، وأما غيرهم من الحيوان فبالتسخير والقدر الذي يسوقهم إلى ما نفد من أمر الله تعالى، وقوله { وقال الله } الآية، آية نهي من الله تعالى عن الإشراك به ومعناها لا تتخذوا إلهين اثنين فصاعداً، بما ينصه من قوله { إنما هو إله واحد } ، قالت فرقة المفعول الأول بـ { تتخذوا } قوله { إلهين }، وقوله { اثنين } تأكيد وبيان بالعدد، وهذا معروف في كلام العرب أن يبين المعدود وبذكر عدده تأكيداً، ومنه قوله { إله واحد } لأن لفظ { إله } يقتضي الانفراد، وقال قوم منهم: المفعول الثاني محذوف تقديره معبوداً أو مطاعاً ونحو هذا، وقالت فرقة: المفعول الأول { اثنين } ، والثاني قوله { إلهين } ، وتقدير الكلام لا تتخذوا اثنين إلهين، ومثله قوله تعالى { { ألا تتخذوا من دوني وكيلاً ذرية من حملنا مع نوح } [الإسراء: 2-3] ففي هذه الآية على بعض الأقوال تقديم المفعول الأول لـ { تتخذوا }، وقوله { فإياي } منصوب بفعل مضمر تقديره فارهبوا إياي فارهبون ولا يعمل فيه الفعل لأنه قد عمل في الضمير المتصل به، وقوله { وله ما في السموات } الآية، الواو في قوله { وله } عاطفة على قوله: { إله واحد } ، وجائز أن يكون واو ابتداء، و { ما } عامة جميع الأشياء مما يعقل ومما لا يعقل، و { السماوات } هنا كل ما ارتفع من الخلق في جهة فوق، فيدخل فيه العرش والكرسي، و { الدين } الطاعة والملك كما قال زهير في دين عمرو: وحالت بيننا فدك. أي في طاعته وملكه، و"الواصب" القائم، قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحاك وقال الشاعر [أبي الأسود]: [الكامل]

لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه يوماً بذم الدهر أجمع واصبا

ومنه قول حسان: [المديد]

غيرته الريح تسفي به وهزيم رعده واصب

وقالت فرقة: هو من الوصب وهو التعب، أي وله الدين على تعبه ومشقته.
قال القاضي أبو محمد: فـ "واصب" على هذا جار على النسب أي ذا وصب، كما قال: أضحى فؤادي به فاتناً، وهذا كثير، وقال ابن عباس أيضاً: "الواصب" الواجب، وهذا نحو قوله: الواصب الدائم، وقوله { أفغير } ، توبيخ ولفظ استفهام ونصب "غير" بـ { تتقون } ، لأنه فعل لم يعمل في سوى "غير" المذكورة، والواو في قوله { وما بكم } يجوز أن تكون واو ابتداء، ويجوز أن تكون واو الحال، ويكون الكلام متصلاً بقول { أفغير الله تتقون } ، كأنه يقال على جهة التوبيخ: أتتقون غير الله وما منعم عليكم سواه، والباء في قوله { بكم } متعلقة بفعل تقديره وما نزل أو ألم ونحو هذا، و { ما } بمعنى الذي، والفاء في قوله { فمن الله } دخلت بسبب الإبهام الذي في { ما } التي هي بمعنى الذي، فأشبه الكلام الشرط، ومعنى الآية التذكير بأن الإنسان في جليل أمره ودقيقه إنما هو في نعمة الله وأفضاله، إيجاده داخل في ذلك فما بعده، ثم ذكر تعالى بأوقات المرض لكون الإنسان الجاهل يحس فيها قدر الحاجة إلى لطف الله تعالى، و { الضر } وإن كان يعم كل مكروه فأكثر ما يجيء عبارة عن أرزاء البدن، و { تجأرون } معناه ترفعون أصواتكم باستغاثة وتضرع، وأصله في جؤار الثور والبقرة وصياحها، وهو عند جهد يلحقها أو في أثر دم يكون من بقر تذبح، فذلك الصراخ يشبه به انتحاب الداعي المستغيث بالله إذ رفع صوته، ومنه قول الأعشى: [المتقارب]

يراوح من صلوات المليـ ـك طوراً سجوداً وطوراً جؤارا

وأنشده أبو عبيدة:

بأبيل كلما صلى جأر

والأصوات تأتي غالباً على فعال أو فعيل: وقرأ الزهري "يجَرَون" بفتح الجيم دون همز حذفت الهمزة وألقيت حركتها على الجيم، كما خففت "تسلون" من "تسألون"، وقوله { ثم إذا كشف الضر } قرأ الجمهور "كشف"، وقرأ قتادة "كاشف"، ووجهها أنها فاعل من واحد بمعنى كشف وهي ضعيفة، و { فريق } هنا يراد به المشركون الذين يرون أن للأصنام أفعالاً من شفاء المرض وجلب الخير ودفع الضر، فهم إذا شفاهم الله عظموا أصنامهم، وأضافوا ذلك الشفاء إليها، وقوله { ليكفروا } يجوز أن يكون اللام لام الصيرورة أي فصار أمرهم ليكفروا، وهم لم يقصدوا بأفعالهم تلك أن يكفروا، ويجوز أن تكون لام أمر على معنى التهديد والوعيد، كقوله { { اعملوا ما شئتم } [فصلت: 40] والكفر هنا يحتمل أن يكون كفر الجحد بالله والشرك، ويؤيده قوله: { بربهم يشركون }، ويحتمل أن يكون كفر النعمة وهو الأظهر، لقوله: { بما آتيناهم } أي بما أنعمنا عليهم، وقرأ الجمهور { فتمتعوا فسوف تعلمون } على معنى قل لهم يا محمد، وروى أبو رافع عن النبي عليه السلام "فيُمتعوا" بياء من تحت مضمومة "فسوف يعلمون" على معنى ذكر الغائب وكذلك في الروم، وهي قراءة أبي العالية، وقرأ الحسن "فتمتعوا" على الأمر "فسوف يعلمون" بالياء على ذكر الغائب، وعلى ما روى أبو رافع يكون "يمتعوا" في موضع نصب عطفاً على "يكفروا" إن كانت اللام لام كي، أو نصباً بالفاء في جواب الأمر إن كانت اللام لام أمر، ومعنى التمتع في هذه الآية بالحياة الدنيا التي مصيرها إلى الفناء والزوال.