التفاسير

< >
عرض

وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ
٧٣
فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ ٱلأَمْثَالَ إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
٧٤
ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٧٥
-النحل

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

هذه آية تقريع للكفار وتوبيخ وإظهار لفساد نظرهم ووضع لهم من الأصنام في الجهة التي فيها سعي الناس وإليها هممهم، وهي طلب الرزق، وهذه الأصنام لا تملك إنزال المطر ولا إثبات نعمة، ومع أنها لا تملك لا تستطيع أن تحاول ذلك من ملك الله تعالى، وقوله { رزقاً } مصدر ونصبه على المفعول بـ { يملك }، وقوله { شيئاً } ذهب كثير من النحويين إلى أنه منصوب على البدل، من قوله { رزقاً } و { رزقاً } اسم، وذهب الكوفيون وأبو علي معهم إلى أنه منصوب بالمصدر في قوله { رزقاً } ولا نقدره اسماً، وهو كقوله تعالى { { ألم نجعل الأرض كفاتاً أحياء وأمواتاً } [المرسلات: 25-26] فـ { كفاتاً } [المرسلات: 25] مصدر منصوب به { أحياء } [المرسلات: 26] ومنه أيضاً في قوله عز وجل { { أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة } [البلد: 14-15] فنصب { يتيماً } [البلد: 15] بـ { إطعام } [البلد: 14]، ومنه قول الشاعر: [الطويل]

فلولا رجاء النصر منك ورهبة عقابك قد صاروا لنا كالموارد

والمصدر يعمل مضافاً باتفاق لأنه في تقدير الانفصال، ولا يعمل إذا دخله الألف اللام لأنه قد توغل في حال الأسماء وبعُد عن حال الفعلية، وتقدير الانفصال في الإضافة حسن عمله، وقد جاء عاملاً مع الألف واللام في قول الشاعر:

ضعيف النكاية أعداءه

البيت:
وقوله: عن الضرب مسمعاً، وقوله { يملك } على لفظ { ما }، وقوله { يستطيعون } على معناها بحسب اعتقاد الكفار في الأصنام أنها تعقل، ويحتمل أن يكون الضمير في { يستطيعون } للذين يعبدون، المعنى لا يستطيعون ذلك ببرهان يظهرونه وحجة يثبتونها، وقوله { فلا تضربوا } أي لا تمثلوا لله الأمثال، وهو مأخوذ من قولك: ضريب هذا أي مثله، والضرب النوع، تقول: الحيوان على ضروب، وهذان من ضرب واحد، وباقي الآية بين وقوله { ضرب الله مثلاً } الآية، هو مثال في هذه الآية هو عبد بهذه الصفة مملوك لا يقدر على شيء من المال ولا من أمر نفسه، وإنما هو مسخر بإرادة سيده مدبر، ولا يلزم من هذا أن العبيد كلهم بهذه الصفة كما انتزع بعض من ينتحل الفقه، وقد قال في المثال: لا يقدر على شيء فيلزم على هذا الانتزاع أن يكون مؤمناً ينفق بحسب الطاعة، وذلك أنه أشرف أن يكون مثالاً، والرزق ما صح الانتفاع به، وقال أبو منصور في عقيدته: الرزق ما وقع الاغتذاء به، وهذه الآية ترد على هذا التخصيص، وكذلك قوله تعالى:
{ { ومما رزقناهم ينفقون } [البقرة: 30] و { { أنفقوا مما رزقناكم } [البقرة: 254] وغير ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "جعل رزقي في ظل رمحي" ، وقوله: "أرزاق أمتي في سنابك خيلها، وأسنة رماحها، فالغنيمة كلها رزق" ، والصحيح أن ما صح الانتفاع به هو الرزق، وهو مراتب أعلاها ما تغذي به، وقد حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوه الانتفاع في قوله: "يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت" .
قال القاضي أبو محمد: وفي معنى اللباس يدخل المركوب ونحوه، واختلف الناس في الذي هو له هذا المثيل فقال قتادة وابن عباس: هو مثل الكافر والمؤمن فكأن الكافر مملوك مصروف عن الطاعة فهو لا يقدر على شيء لذلك. ويشبه ذلك العبد المذكور.
قال القاضي أبو محمد: والتمثيل على هذا التأويل إنما وقع في جهة الكافر فقط، جعل له مثالاً، ثم قرن بالمؤمن المرزوق إلا أن يكون المرزوق ليس بمؤمن، وإنما هو مثال للمؤمن، فيقع التمثيل من جهتين، وقال مجاهد والضحاك: هذا المثال والمثال الآخر الذي بعده إنما هو لله تعالى والأصنام، فتلك هي للعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، والله تعالى تتصرف قدرته دون معقب، وكذلك فسر الزجاج على نحو قول مجاهد.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل أصوب، لأن الآية تكون من معنى ما قبلها وبعدها في تبين أمر الله والرد على أمر الأصنام، وذكر الطبري عن ابن عباس أنه قال: نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان، وعبد كان له، وروي تعيين غير هذا ولا يصح إسناده.
قال القاضي أبو محمد: والمثل لا يحتاج إلى تعيين أحد، وقوله { الحمد لله } شكر على بيان الأمر بهذا المثال وعلى إذعان الخصم له، وهذا كما تقول لمن أذعن لك في حجة وسلم ما تبني أنت عليه قولك: الله أكبر، على هذا يكون كذا وكذا، فلما قال هنا { هل يستوون }؟ فكأن الخصم قال له لا فقال الحمد لله ظهرت الحجة، وقوله { بل أكثرهم لا يعلمون } يريد لا يعلمون أبداً ولا يداخلهم إيمان، ويتمكن على هذا قوله: { أكثرهم }، لأن الأقل من الكفار هو الذي آمن من أولئك، ولو كان معنى قوله { لا يعلمون } أي الآن، لكان قوله { أكثرهم } بمعنى الاستيعاب لأنه لم يكن أحد منهم يعلم.