التفاسير

< >
عرض

وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً
١٠٥
وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً
١٠٦
قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً
١٠٧
وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً
١٠٨
-الإسراء

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

الضمير في قوله { أنزلناه } عائد على القرآن المذكور، وفي قوله { { ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } [الإسراء: 89] ويجوز أن يكون الكلام آنفاً. وأشار بالضمير إلى القرآن على ذكر متقدم لشهرته، كما قال { { حتى توارت بالحجاب } [ص: 32].
وهذا كثير، قال الزهراوي: معناه بالواجب الذي هو المصلحة والسداد للناس { بالحق } في نفسه، وقوله { وبالحق نزل }، يريد { بالحق } في أوامره ونواهيه وأخباره فبهذا التأويل يكون تكرار اللفظ لمعنى غير الأول، وذهب الطبري إلى أنهما بمعنى واحد، أي بأخباره وأوامره وبذلك نزل، وقوله { وقرآناً } مذهب سيبويه أن نصبه بفعل مضمر يفسره الظاهر بعد، أي "وفرقنا قرآناً" ويصح أن يكون معطوفاً على الكاف في { أرسلناك } من حيث كان إرسال هذا وإنزال هذا المعنى واحد، وقرأ جمهور الناس "فرَقناه" بتخفيف الراء، ومعناه بيناه وأوضحناه وجعلناه فرقاناً، وقرأ ابن عباس وقتادة وأبو رجاء وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي بن كعب والشعبي والحسن بخلاف، وحميد وعمرو بن فائد "فرّقناه" بتشديد الراء، إلا أن في قراءة ابن مسعود وأبيّ "فرقناه عليه لتقرأه" أي أنزلناه شيئاً بعد الشيء لا جملة واحدة ويتناسق هذا المعنى مع قوله { لتقرأه على الناس على مكث }، وهذا كان مما أراد الله من نزوله بأسباب تقع في الأرض من أقوال وأفعال في أزمان محدودة معينة، واختلف أهل العلم في كم القرآن من المدة؟ فقيل: في خمس وعشرين سنة، وقال ابن عباس: في ثلاث وعشرين سنة، وقال قتادة في عشرين سنة، وهذا بحسب الخلاف في سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الوحي بدأ وهو ابن أربعين، وتم بموته، وحكى الطبري عن الحسن البصري أنه قال: نزل القرآن في ثمان عشرة سنة، وهذا قول يختل لا يصح عن الحسن والله أعلم، وتأولت فرقة قوله عز وجل { على مكث } أي على ترسل في التلاوة، وهو ترتيل، هذا قول مجاهد وابن عباس وابن جريج وابن زيد، والتأويل الآخر أي { على مكث } وتطاول في المدة شيئاً بعد شيء، وقوله { ونزلناه تنزيلاً } مبالغة وتأكيد بالمصدر للمعنى المتقدم ذكره في ألفاظ الآية،، وأجمع القراء على ضم الميم من { مُكث }، ويقال مَكث ومِكث بفتح الميم ومكث بكسرها، وقوله { قل آمنوا به } الآية تحقير للكفار، وفي ضمنه ضرب من التوعد، والمعنى أنكم لستم بحجة، فسواء علينا آمنتم أم كفرتم، وإنما ضرّ ذلك على أنفسكم، وإنما الحجة أهل العلم من قبله وهم بالصفة المذكورة، واختلف الناس في المراد بـ { الذين أوتوا العلم من قبله }، فقالت فرقة: هم مؤمنو أهل الكتاب وقالت فرقة: هم ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل ومن جرى مجراهما.
وقيل إن جماعة من أهل الكتاب جلسوا وهم على دينهم فتذاكروا أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه، وقرىء عليهم منه شيء فخشعوا وسبحوا لله، وقالوا هذا وقت نبوة المذكور في التوراة، وهذه صفته، ووعد الله به واقع لا محالة وجنحوا إلى الإسلام هذا الجنوح، فنزلت الآية فيهم، وقالت فرقة: المراد بـ { الذين أوتوا العلم من قبله } محمد صلى الله عليه وسلم، والضمير في { قبله } عائد على القرآن حسب الضمير في { به }، ويبين ذلك قوله { إذا يتلى }، وقيل الضميران لمحمد. واستأنف ذكر القرآن في قوله { إذا يتلى }، وقوله { للأذقان } أي لناحيتها، وهذا كما تقول تساقط لليد والفم أي لناحيتهما، وعليهما قال ابن عباس: المعنى للوجوه، وقال الحسن: المعنى للحى، و"الأذقان" أسافل الوجوه حيث يجتمع اللحيان، وهي أقرب ما في رأس الإنسان إلى الأرض، لا سيما عند سجوده، وقال الشاعر: [الطويل]

فخروا لأذقان الوجوه تنوشهم سباع من الطير العوادي وتنتف

و { إن } في قوله { إن كان } هي عند سيبويه المخففة من الثقيلة، واللام بعدها لام التوكيد، وهي عند الفراء النافية، واللام بمعنى إلاّ، ويتوجه في هذه الآية معنى آخر وهو أن يكون قوله { آمنوا به أو لا تؤمنوا } مخلصاً للوعيد دون التحقير، والمعنى فسترون ما تجازون به، ثم ضرب لهم المثل على جهة التقريع بمن تقدم من أهل الكتاب، أي أن الناس لم يكونوا كما أنتم في الكفر، بل الذين أوتوا التوراة والإنجيل والزبور والكتب المنزلة في الجملة، { إذا يتلى عليهم } ما نزل عليهم خشعوا وآمنوا.