التفاسير

< >
عرض

وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً
٧٦
سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً
٧٧
أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيلِ وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً
٧٨
وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً
٧٩
-الإسراء

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

قال حضرمي الضمير في { كادوا } ليهود المدينة وناحيتها، كحيي بن أخطب وغيره، وذلك أنهم ذهبوا إلى المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء، وإنما أرض الأنبياء بالشام، ولكنك تخاف الروم، فإن كنت نبياً، فاخرج إليها فإن الله سيحميك كما حمى غيرك من الأنبياء، فنزلت الآية في ذلك، وأخبر الله عز وجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو خرج لم يلبثهم بعده { إلا قليلاً }، وحكى النقاش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بسبب قولهم، وعسكر بذي الحليفة، وأقام ينتظر أصحابه، فنزلت الآية عليه، فرجع، وهذا ضعيف لم يقع في سيرة ولا في كتاب يعتمد عليه، وذو الحليفة ليس في طريق الشام من المدينة، وقالت فرقة الضمير في { كادوا } هو لقريش، وحكى الزجاج أن "استفزازهم" هو ما كانوا أجمعوا عليه في دار الندوة من قتله، و { الأرض } على هذا عامة في الدنيا، كأنه قال { ليخرجوك } من الدنيا، وعلى سائر الأقوال هي أرض مخصوصة، إما مكة وإما المدينة، كما قال تعالى { { أو ينفوا من الأرض } [المائدة: 33]. فإنما معناه من الأرض التي فيها تصرفهم وتمعسهم، وقال ابن عباس وقتادة: واستفزاز قريش هو ما كانوا ذهبوا إليه من إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، كما ذهبوا قبل إلى حصره في الشعب، ووقع استفزازهم هذا بعد نزول الآية، وضيقوا عليه حتى خرج واتبعوه إلى الغار وغير ذلك، ونفذ عليهم الوعيد في أن لم يلبثوا خلفه { إلا قليلاً } يوم بدر، وقال مجاهد ذهبت قريش إلى هذا ولكنه لم يقع منها، لأنه لما أراد الله استبقاء قريش وأن لا يستأصلها، أذن لرسوله بالهجرة، فخرج من الأرض بإذن الله لا يقهر قريش، واستبقيت قريش ليسلم منها ومن أعقابها من أسلم، قال: ولو أخرجته قريش لعذبوا، فذهب مجاهدرحمه الله إلى أن الضمير في { يلبثون } عام في جميعهم، وفي مصحف عبد الله بن مسعود "وإذاً لا يلبثوا" بحذف النون، وإعمال { إذاً }، وسائر القراء ألغوها وأثبتوا النون، وقرأ عطاء بن أبي رباح "يُلَبّثون" بضم الياء وفتح اللام وشد الباء، وروي مثله عن يعقوب إلا أنه كسر الباء، وقرأ عطاء "بعدك إلا قليلاً"، وقرأ الجمهور "خلفك"، وقرأ ابن عامر وحمزة الكسائي وحفص عن عاصم "خلافك"، والمعنى واحد، ومنه قول الشاعر: [الكامل]

عقب الرذاذ خلافها فكأنما بسط الشواطب بينهن حصيرا

ومنه قوله تعالى: { { فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله } [التوبة: 81]، على بعض تأويلاته أي بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه اللفظة قد لزم حذف المضاف لأن التقدير في آياتنا خلاف خروجك، وفي بيت الشاعر خلاف انبساط الشمس أو نحوه، قال أبو علي: أصابوا هذه الظروف تضاف إلى الأسماء الأعيان التي ليست أحداثاً فلم يستحبوا إضافتها إلى غير ما جرى عليه كلامهم كما أنها لما جرت منصوبة في كلامهم تركوها على حالها إذا وقعت في غير موضع النصب، كقوله تعالى: { { وإنا منا الصالحون ومنا دون ذلك } [الجن: 11]، وقوله { { يوم القيامة يفصل بينكم } [الممتحنة: 3]، وقوله { سنّة } نصب على المصدر، وقال الفراء نصبه على حذف الخافض، لأن المعنى كسنة، فحذفت الكاف ونصب ويلزمه على هذا أن لا يقف على قوله { قليلاً }، ومعنى الآية الإخبار أن سنة الله تعالى في الأمم الخالية وعادته أنها إذا أخرجت نبيها من بين أظهرها نالها العذاب واستأصلها الهلاك فلم تلبث بعده إلا قليلاً، وقوله { أقم الصلاة } الآية، هذه بإجماع من المفسرين إشارة إلى الصلوات المفروضة، فقال ابن عمرو وابن عباس وأبو بردة والحسن والجمهور: "دلوك الشمس" زوالها، والإشارة إلى الظهر والعصر، و { غسق الليل } أشير به إلى المغرب والعشاء، { وقرآن الفجر } أريد به صلاة الصبح، فالآية على هذا تعم جميع الصلوات وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني جبريل { لدلوك الشمس } حين زالت فصلى بي الظهر" ، وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عنده وقد طعم وزالت الشمس، فقال اخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس، وقال ابن مسعود وابن عباس وزيد بن أسلم: "دلوك الشمس" غروبها، والإشارة بذلك إلى المغرب، و { غسق الليل } اجتماع ظلمته، فالإشارة إلى العتمة، { وقرآن الفجر } صلاة الصبح، ولم تقع إشارة على هذا إلى الظهر والعصر، والقول الأول أصوب لعمومه الصلوات، وهما من جهة اللغة حسنان، وذلك أن الدلوك هو الميل في اللغة فأول الدلوك هو الزوال، وآخره هو الغروب، ومن وقت الزوال إلى الغروب يسمى دلوكاً، لأنها في حالة ميل، فذكر الله { الصلوات } التي في حالة "الدلوك" وعنده، فيدخل في ذلك الظهر والعصر والمغرب ويصح أن تكون المغرب داخلة في { غسق الليل }، ومن الدلوك الذي هو الميل قول الأعرابي للحسن بن أبي الحسن أيدالك الرجل امرأته يريد أيميل بها إلى المطل في دينها فقال له الحسن نعم إذا كان ملفجاً، أي عديماً، ومنه قول ذي الرمة: [الطويل]

مصابيح ليست باللواتي تقودها نجوم ولا بالآفلات الدوالك

ومن ذلك قول الشاعر: [الرجز]

هذا مكان قدمي رباح غدوة حتى دلكت براح

يروى براح بكسر الباء، قال أبو عبيدة الأصمعي وأبو عمرو الشيباني ومعناه براحة الناظر يستكف بها أبداً لينظر كيف ميلها وما بقي لها، وهذا نحو قول الحجاج: [الرجز]

والشمس قد كادت تكون دنفاً دفعها بالراح كي تزحلقا

وذكر الطبري عن ابن مسعود أنه قال: دلكت براح يعني براح مكاناً. قال: فإن كان هذا من تفسير ابن مسعود فهو أعلم، وإن كان من كلام راوٍ فأهل الغريب أعلم بذلك، ويروى أن البيت الأول: "غدوة حتى هلكت بَراح"، بفتح الباء على وزن قطام وحذام، وهو اسم من أسماء الشمس، وغسق الليل اجتماعه وتكاثف ظلمته، وقال الشاعر: [المديد]

آب هذا الليل إذ غسقا

وقال ابن عباس: { غسق الليل } بدؤه، ونصب قوله { وقرآن } بفعل مضمر تقديره واقرأ قرآن، ويصح أن ينصب عطفاً على الصلاة، أي "وأقم قرآن الفجر"، وعبر عن صلاة الصبح خاصة بـ "القرآن" لأن القرآن هو عظمها، إذ قراءتها طويلة مجهور بها، ويصح أن ينصب قوله { وقرآن } على الإغراء وقوله { إن قرآن الفجر كان مشهوداً } معناه ليشهده حفظة النهار وحفظة الليل من الملائكة حسبما ورد في الحديث المشهور من قوله عليه السلام: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر" ، الحديث بطوله من رواية أبي هريرة وغيره، وعلى القول بذلك مضى الجمهور، وذكر الطبري حديثاً عن ابن عسكر من طريق أبي الدرداء، في قوله { كان مشهوداً } قال محمد بن سهل بن عسكر يشهده الله وملائكته، وذكر في ذلك الحديث أن الله تعالى ينزل في آخر الليل، ونحو هذا مما ليس بالقوي، وقوله { ومن الليل } { من } للتبعيض، التقدير ووقتاً من الليل أي وقم وقتاً، والضمير في { به } عائد على هذا المقدر ويحتمل أن يعود على "القرآن" وإن كان لم يجر له ذكر مطلق كما هو الضمير مطلق، لكن جرى مضافاً إلى الفجر، و { فتهجد } معناه: فاطرح الهجود عنك، والهجود النوم، يقال هجُد يهجُد بضم الجيم هجوداً إذا نام، ومنه قول ذي الرمة: [الطويل]

ألا طرقتنا والرفاق هجود فباتت بعلات النوال تجود

ومنه قول الحطيئة: [الطويل]

فحياك ود ما هداك لفتية وخوص بأعلى ذي طوالة هجد

وهذا الفعل جار مجرى تحوب وتأثم وتحنث، ومثله { { فظلتم تفكهون } [الواقعة: 65] معناه تندمون، أي تطرحون الفاكهة عن أنفسكم وهي انبساط النفس وسرورها، يقال رجل فكه إذا كان كثير السرور والضحك، فالمعنى وقتاً من الليل اسهر به في صلاة وقراءة، وقال الأسود وعلقمة وعبد الرحمن بن الأسود: "التهجد" بعد نومة، وقال الحجاج بن عمرو إنما "التهجد" بعد رقدة، وقال الحسن: "التهجد" ما كان بعد العشاء الآخرة، وقوله { نافلة لك } قال ابن عباس وغيره: معناه زيادة لك في الفرض، قالوا: وكان قيام الليل فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: وتحتمل الآية أن يكون هذا على وجه الندب في التنفل، ويكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد هو وأمته كخطابه في قوله { أقم الصلوات } الآية. وقال مجاهد: إنما هي { نافلة } للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه مغفور له والناس يحطون بمثل ذلك خطاياهم، وبين أن النبي صلى الله عليه وسلم منذ غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر عام الحديبية فإنما كانت نوافله واستغفاره فضائل من العمل وقرباً أشرف من نوافل أمته، لأن هذا إما أن تجبر بها فرائصهم حسب الحديث، وإما أن تحط بها خطاياهم، وقد يتصور من لا ذنب له ينتفل فيكون تنفله فضيلة، كنصراني يسلم وصبي يحتلم، وضعف الطبري قول مجاهد. وقوله { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً } عزة من الله عز وجل لرسوله، وهو أمر الشفاعة الذي يتدافعه الأنبياء حتى ينتهي إليه عليه السلام، والحديث بطوله في البخاري ومسلم، فلذلك اختصرناه، ولأجل ذلك الاعتمال الذي له في مرضاة جميع العالم مؤمنهم وكافرهم قال:
"أنا سيد، ولد آدم ولا فخر" . و { عسى } من الله واجبة، و { مقاماً } نصب على الظرف، ومن غريب حديث الشفاعة اقتضابه المعنى، وذلك أن صدر الحديث يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم يستنهض للشفاعة في أن يحاسب الناس وينطلقون من الموقف، فيذهب لذلك، وينص بإثر ذلك على أنه شفع في إخراج المذنبين من النار، فمعناه الاقتضاب والاختصار. لأن الشفاعة في المذنبين لم تكن إلا بعد الحساب والزوال من الموقف، ودخول قوم الجنة ودخول قوم النار، وهذه الشفاعة لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون ويشفع العلماء، وذكر الطبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المقام المحمود هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي" .
قال القاضي أبو محمد: وينبغي أن يتأول هذا على ما قلناه لأمته وغيرها، أو يقال إن كل مقام منها محمود، قال النقاش: لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات، شفاعة العامة، وشفاعة السبق إلى الجنة، وشفاعة في أهل الكبائر، والمشهور أنهما شفاعتان فقط، وحكى الطبري عن فرقة منها مجاهد أنها قالت: "المقام المحمود" هو أن الله عز وجل يجلس محمداً معه على عرشه، وروت في ذلك حديثاً، وعضد الطبري جواز ذلك بشطط من القول، وهو لا يخرج إلا على تلطف في المعنى وفيه بعد، ولا ينكر مع ذلك أن يروى، والعلم يتأوله، وقد ذكر النقاش عن أبي داود السختياني أنه قال من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم ما زال أهل العلم يتحدثون بهذا.
قال القاضي أبو محمد: من أنكر جوازه على تأويله.