التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً
٨٩
وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً
٩٠
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ ٱلأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً
٩١
أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ قَبِيلاً
٩٢
-الإسراء

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

هذه الآية تنبه على فضل الله في القرآن على العالم، وتوبيخ للكفار منهم على قبيح فعلهم، وتصريف القول هو ترديد البيان عن المعنى، وقرأ الجمهور "صرّفنا" بتشديد الراء، وقرأ الحسن "صرَفنا" بفتح الراء خفيفة، وقوله { من كل مثل } يجوز أن تكون { من } لابتداء الغاية، ويكون المفعول بـ { صرفنا } مقدراً تقديره "ولقد صرفنا في هذا القرآن التنبيه والعبر من كل مثل ضربناه"، ويجوز أن تكون مؤكدة زائدة، التقدير "ولقد صرفنا كل مثل"، وهذا كقوله تعالى: { { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } } [البقرة: 125]. وقوله { فأبى } عبارة عن تكسب الكفار الكفر وإعراضهم عن الإيمان، وفي العبارة يأبى تغليظ، والكفر بالخلق والاختراع هو من فعل الله تعالى، وبالتكسب والدؤوب هو من الإنسان، و { كفوراً } مصدر كالخروج، وقوله تعالى: { وقالوا لن نؤمن لك } الآية، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر "حتى تُفجّر"، وقرأ عاصم وحمزة الكسائي حتى "تَفجُر" بفتح التاء وضم الجيم، وفي القرآن { { فانفجرت } } [البقرة: 60]، وانفجر مطاوع فجر فهذا مما يقوي القراءة الثانية، وأما الأولى فتقتضي المبالغة في التفجير. و"الينبوع" الماء النابع، وهي صفة مبالغة إنما تقع للماء الكثير، وطلبت قريش هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وإياها عنوا بـ { الأرض }، وإنما يراد بإطلاق لفظة { الأرض } هنا الأرض التي يكون فيها المعنى المتكلم فيه، كقوله { { أو ينفوا من الأرض } [المائدة: 33] فإنما يريد من أرض تصرفهم وقطعهم السبل ومعاشهم، وكذلك أيضاً اقتراحهم الجنة إنما هو بمكة لامتناع ذلك فيها، وإلا ففي سائر البلاد كان ذلك يمكنه وإنما طلبوه بأمر إلهي في ذلك الموضع الجدب، وقرأ الجمهور "جنة"، وقرأ "حبة" المهدوي، وقوله { فتفجّر }. تضعيف مبالغة لا تضعيف تعدية، كغلقت الأبواب، و { خلالها } ظرف، ومعناه أثناءها وفي داخلها، وروي في قول هذه المقالة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث طويل، مقتضاه "أن عتبة وشيبة ابني ربيعة، وعبد الله بن أبي أمية، والنضر بن الحارث وغيرهم من مشيخة قريش وسادتها، اجتمعوا عليه فعرضوا عليه أن يملكوه إن أراد الملك، أو يجمعوا له كثيراً من المال إن أراد الغنى، أو يطبوه إن كان به داء ونحو هذا من الأقاويل، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك إلى الله، وقال إنما جئتكم عند الله بأمر فيه صلاح دينكم ودنياكم، فإن سمعتم وأطعتم فحسن، وإلا صبرت لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم بما شاء، فقالوا له حينئذ فإن كان ما تزعمه حقاً ففجر ينبوعاً ونؤمن لك، ولتكن لك جنة إلى غير ذلك مما كلفوه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا كله إلى الله، ولا يلزمني هذا ولا غيره، وإنما أنا مستسلم لأمر الله" ، هذا هو معنى الحديث. وفي الألفاظ اختلاف وروايات متشعبة يطول سوق جميعها، فاختصرت لذلك. وقوله تعالى: { أو تسقط السماء } الآية، قرأ الجمهور "أو تُسقط" بضم التاء، "السماءَ" نصب، وقرأ مجاهد "أو تَسقط السماءُ" برفع "السماءُ" وإسناد الفعل إليها، وقوله { كما زعمت } إشارة إلى ما تلي عليهم قبل ذلك في قوله عز وجل { { إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء } [سبأ: 9]، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي "كسْفاً" بسكون السين إلا في الروم، فإنهم حركوها، ومعناه قطعاً واحداً، قال مجاهد: السماء جميعاً وتقول العرب: كسفت الثوب ونحوه قطعته، فـ "الكسَف" بفتح السين المصدر، والكسف الشيء المقطوع، قال الزجاج: المعنى أو تسقط السماء علينا قطعاً، واشتقاقه من كسفت الشيء إذا غطيته.
قال القاضي أبو محمد: وليس بمعروف في دواوين اللغة كسف بمعنى غطى، وإنما هو بمعنى قطع، وكأن كسوف الشمس والقمر قطع منهما، وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر "كسَفاً" بفتح السين أي قطعاً جمع كسفه، وقوله { قبيلاً } قيل معناه مقابلة وعياناً، وقيل معناه ضامناً وزعيماً بتصديقك، ومنه القبالة وهي الضمان والقبيل، والمتقبل الضامن، وقيل معناه نوعاً وجنساً لا نظير له عندنا، وقرأ الأعرج "قبلاً" وقيل بمعنى المقابلة.