التفاسير

< >
عرض

إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ إِلَى ٱلْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً
١٠
فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي ٱلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً
١١
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً
١٢
-الكهف

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

{ الفتية } فيما روي، قوم من أبناء أشراف مدينة دقيوس الملك الكافر، ويقال فيه دقليوس، ويقال دقينوس، وروي أنهم كانوا مطوقين مسورين بالذهب، وهم من الروم واتبعوا دين عيسى، وقيل كانوا قبل عيسى، وأما أسماؤهم فهي أعجمية، والسند في معرفتها واه، ولكن التي ذكر الطبري هي هذه، مكسيليمنيا وهو أكبرهم والمتكلم عنهم، ومجسيلينيا وتمليخا وهو الذي مضى بالورق إلى المدينة عند بعثهم من رقدتهم، مرطوس وكشوطونس، وبيرونس، ودينموس، ويطونس، واختلف الرواة في قصص هؤلاء الفتية وكيف كان اجتماعهم وخروجهم إلى الكهف؟ وأكثر المؤرخون في ذلك، ولكن نختصر من حديثهم ونذكر ما لا تستغني الآية عنه، ونذكر من الخلاف عيونه بحول الله، روى مجاهد عن ابن عباس أن هؤلاء الفتية كانوا في دين ملك يعبد الأصنام ويذبح لها ويكفر بالله، وقد تابعه على ذلك أهل المدينة فوقع للفتية علم من بعض النحويين حسب ما ذكر النقاش أو من مؤمني الأمم قبلهم بحسب الخلاف الذي ذكرناه، فآمنوا بالله ورأوا ببصائرهم قبيح فعل الناس، فأخذوا نفوسهم بالتزام الدين وعبادة الله، فرفع أمرهم إلى الملك، وقيل له إنهم قد فارقوا دينك واستخفوا آلهتك وكفروا بها، فاستحضرهم الملك في مجلسه وأمرهم باتباع دينه والذبح لآلهته وتوعدهم على فراق ذلك بالقتل، فقالوا له فيما روي { { ربنا رب السماوات والأرض } [الكهف: 14] إلى قوله { { وإذ اعتزلتموهم } [الكهف: 16]، وروي أنهم قالوا نحو هذا الكلام وليس به، فقال لهم الملك إنكم شبان أغمار لا عقول لكم، وأنا لا أعجل بكم، بل أستأني، فاذهبوا إلى منازلكم ودبروا رأيكم وارجعوا إلى أمري، وضرب لهم في ذلك أجلاً، ثم إنه سافر خلال الأجل فتشاور الفتية في الهروب بأديانهم، فقال لهم أحدهم إني أعرف كهفاً في جبل كذا كان أبي يدخل فيه غنمه، فلنذهب إليه فنختفي فيه حتى يفتح الله لنا، فخرجوا فيما روي يلعبون بالصولجان والكرة وهم يدحرجونها إلى نحو طريقهم لئلا يشعر الناس بهم، وقيل إنهم كانوا مثقفين فحضر عيد أخرجوا له فركبوا في جملة الناس، ثم أخذوا في اللعب بالصولجان حتى خلصوا بذلك، وروت فرقة أن أمر أصحاب الكهف إنما كان أنهم كانوا من أبناء الأشراف فحضر عيد لأهل المدينة فرأى الفتيان ما يمتثله الناس في ذلك العيد من الكفر وعبادة الأصنام والذبح لها، فوقع الإيمان في قلوبهم وأجمعوا على مفارقة الناس لئلا ينالهم العذاب معهم، فزايلوا الناس، وذهبوا إلى الكهف، وروى وهب بن منبه أن أمرهم إنما كان أن حوارياً لعيسى ابن مريم، جاء إلى مدينة أصحاب الكهف يريد دخولها، فآجر نفسه من صاحب الحمام فكان يعمل فيه، فرأى صاحب الحمام في أعماله بركة عظيمة فألقى إليه بكل أمره، وعرف ذلك الرجل فتيان من أهل المدينة، فنشر فيهم الإيمان وعرفهم الله تعالى، فآمنوا واتبعوه على دينه، واشتهرت خلطتهم به، فأتى يوماً إلى ذلك الحمام ولد الملك بامرأة بغي أراد الخلوة بها، فنهاه ذلك الحواري فانتهى، ثم جاءه مرة أخرى فنهاه فشتمه وأمضى عزمه في دخول الحمام مع البغي، فدخل فماتا فيه جميعاً، فاتهم ذلك الحواري وأصحابه بقتله، ففروا جميعاً حتى دخلوا الكهف، وقال عبيد بن عمير: إن أصحاب الكهف كانوا فتية أبناء العظماء مطوقين مسورين ذوي ذوائب قد داخلهم الإيمان أفذاذاً، وأزمع واحد منهم الفرار بدينه من بلد الكفر، فأخرجهم الله في يوم واحد لما أراده بهم، فخرج أحدهم فجلس في ظل شجرة على بعد من المدينة، فخرج ثان، فلما رأى الجالس جلس إليه، ثم الثالث ثم الباقون حتى كمل جميعهم في ظل الشجرة، فألقى الله في نفوسهم أن غرضهم واحد، فتساءلوا، ففزع بعضهم من بعض وتكتموا، ثم تراضوا برجلين منهم، وقالوا لنفرد أو تواثقا وليفش كل واحد منكما سره إلى صاحبه، فإن اتفقتما كنا معكما، فنهضا بعيداً وتكلما فأفصحا بالإيمان والهروب بالدين فرجعا وفضحا الأمر وتابعهما الآخرون ونهضوا إلى الكهف، وأما الكلب فروي أنه كان كلب صيد لبعضهم، وروي أنهم وجدوا في طريقهم راعياً له كلب فاتبعهم الراعي على رأيهم، وذهب الكلب معهم، واسم الكلب حمران، وقل قطير، فدخلوا الغار على جميع هذه الأقوال فروت فرقة أن الله عز وجل "ضرب على آذانهم" عند ذلك لما أراده من سترهم، وخفي على أهل المملكة مكانهم، وعجب الناس من غرابة فقدهم، فأرخوا ذلك ورقموه في لوحين من رصاص أو نحاس، وجعلوه على باب المدينة فيه اسماؤهم وأسماء آبائهم وذكر شرفهم، وأنهم فقدوا بصورة كذا في وقت كذا، وقيل إن الذي كتب هذا وتهمم به رجلان قاضيان مؤمنان يكتمان إيمانهما من أهل بيت المملكة، وتسترا بذلك ودفنا اللوحين عندهما: وقيل على الرواية بأن الملك أتى باب الغار، وأنهما دفنا ذلك في بناء الملك على الغار، وروت فرقة أن الملك لما ذهب الفتية أمر بقص آثارهم، فانتهى ذلك بمتبعيهم إلى باب الغار، فعرف الملك، فركب في جنده حتى وقف عليه، فأمر بالدخول عليهم فهاب الرجال ذلك، فقال له بعض وزرائه ألست أيها الملك إن أخرجتهم قتلتهم، قال نعم، قال فأي قتلة أبلغ من الجوع والعطش، ابن عليهم باب الغار ودعهم يموتوا فيه، ففعل، وقد "ضرب الله على آذانهم" قبل ذلك لما أراد من تأمينهم، وأرخ الناس أمرهم في اللوحين، أو أرخه الرجلان بحسب الخلاف، واسم أحد الرجلين فيما ذكر الطبري بندروس، واسم الآخر روناس، وروي أن هذا الملك الذي فر الفتية من دينه، كان قد امتحن الله به المؤمنين حيث أحس بهم، يقتلهم ويعلقهم أشخاصاً ورؤوساً على أسوار مدينته، وكان يريد أن يذهب فيما ذكر، دين عيسى، وكان هو وقومه من الروم، ثم أخبر الله تعالى عن الفتية أنهم لما أووا إلى الكهف أي دخلوه وجعلوه مأوى لهم وموضع اعتصام، دعوا الله تعالى بأن يؤتيهم من عنده رحمة، وهي الرزق فيما ذكر المفسرون، وأن يهيىء لهم من أمرهم { رشداً } أي خلاصاً جميلاً، وقرأ الجمهور "رَشَداً" بفتح الراء والشين، وقرأ أبو رجاء "رُشْداً" بضم الراء وسكون الشين، والأولى أرجح لشبهها بفواصل الآيات قبل وبعد، وهذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم، وألفاظه تقتضي ذلك، وقد كانوا على ثقة من رشد الآخرة ورحمتها، وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه هذه الآية فقط، فإنها كافية، ويحتمل ذكر "الرحمة" أن يراد بها أمر الآخرة وقد اختصرت هذا القصص، ولم أغفل من مهمه شيئاً بحسب اجتهادي، والله المعين برحمته، وقوله { فضربنا على آذانهم } الآية عبارة عن إلقاء الله تعالى النوم عليهم، ويعبر عن هذا ونحوه بـ "الضرب" لتبين قوة المباشرة وشدة اللصوق في الأمر المتكلم فيه والإلزام، ومنه ضرب الذلة والمسكنة، ومنه ضرب الجزية، ومنه ضرب البعث. ومنه قول الفرزدق: الكامل]

ضربت عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزل

فهذا يستعمل في اللزوم البليغ، وأما تخصيص "الآذان" بالذكر فلأنها الجارحة التي منها عظم فساد النوم، وقلَّما ينقطع نوم نائم إلا من جهة أذنه، ولا يستحكم نوم إلا مع تعطل السمع، ومن ذكر الأذن في النوم قوله صلى الله عليه وسلم "ذلك رجل بال الشيطان في أذنه" أشار عليه السلام إلى رجل طويل النوم لا يقوم بالليل، وقوله "عدداً" نعت للسنين، والقصد به العبارة عن التكثير، أي تحتاج إلى عدد وهي ذات عدد، قال الزجاج: ويجوز أن يكون نصب { عدداً } على المصدر، و"البعث" التحريك بعد سكون، وهذا مطرد مع لفظة البعث حيث وقعت، وقد يكون السكون في الشخص أو عن الأمر المبعوث فيه وإن كان الشخص متحركاً، وقوله { لنعلم } عبارة عن خروج ذلك الشيء إلى الوجود، وهذا على نحو كلام العرب أي لنعلم ذلك موجوداً، وإلا فقد كان الله تعالى علم { أي الحزبين } أحصى الأمد وقرأ الزهري "ليعلم" بالياء، و"الحزبان" الفريقان، والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم الفتية، إذ ظنوا لبثهم قليلاً، والحزب الثاني هم أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم حين كان عندهم التاريخ بأمر الفتية، وهذا قول الجمهور من المفسرين، وقالت فرقة: هما حزبان من الكافرين اختلفا في مدة أصحاب الكهف، وقالت فرقة: هما حزبان من المؤمنين، وهذا لا يرتبط من ألفاظ الآية، وأما قوله { أحصى } فالظاهر الجيد فيه أنه فعل ماض، و { أمداً } منصوب به على المفعول، و"الأمد" الغاية، وتأتي عبارة عن المدة من حيث للمدة غاية هي أمدها على الحقيقة، وقال الزجاج: { أحصى } هو أفعل، و { أمداً } على هذا نصب على التفسير، ويلحق هذا القول من الاختلال أن أفعل لا يكون من فعل رباعي إلا في الشاذ، و { أحصى } فعل رباعي، ويحتج لقول أبي إسحاق بأن أفعل من الرباعي قد كثر، كقولك ما أعطاه للمال، وآتاه للخير، وقال النبي عليه السلام في صفه جهنم: "هي أسود من القار" وقال في صفة حوضه عليه السلام "ماؤه أبيض من اللبن" وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه "فهو لما سواها أضيع" وهذه كلها أفعل من الرباعي، وقال مجاهد: { أمداً } معناه عدداً، وهذا تفسير بالمعنى على جهة التقريب، وقال الطبري: نصب { أمداً } بـ { لبثوا } ، وهذا غير متجه.