التفاسير

< >
عرض

آتُونِي زُبَرَ ٱلْحَدِيدِ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ ٱلصَّدَفَيْنِ قَالَ ٱنفُخُواْ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِيۤ أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً
٩٦
فَمَا ٱسْطَاعُوۤاْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا ٱسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً
٩٧
قَالَ هَـٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً
٩٨
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً
٩٩
وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً
١٠٠
-الكهف

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

قرأ عاصم وحمزة "ايتوني" بمعنى جيئوني، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي "آتوني" بمعنى أعطوني، وهذا كله إنما هو استدعاء إلى المناولة، لا استدعاء العطية والهبة، لأنه قد ارتبط من قوله إنه لا يأخذ منهم الخرج، فلم يبق الاستدعاء المناولة، وإعمال القوة، و"ايتوني": أشبه بقوله: فأعينوني بقوة، ونصب "الزبر" به على نحو قول الشاعر: أمرتك الخير، حذف الجار فنصب الفعل وقرأ الجمهور "زبَر" بفتح الباء، وقرأ الحسن بضمها، وكل ذلك جمع زبرة، وهي القطعة العظيمة منه، والمعنى: فرصفه وبناه، حتى إذا ساوى بين الصدفين، فاختصر ذلك لدلالة الظاهر عليه، وقرأ الجمهور "ساوى" وقرأ قتادة "سوى"، و"الصدفان": الجبلان المتناوحان، ولا يقال للواحد صدف وإنما يقال صدفان لاثنين لأن أحدهما يصادف الآخر، وقرأ نافع وحمزة والكسائي "الصَّدَفين" بفتح الصاد وشدها وفتح الدال، وهي قراءة عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو "الصُّدفين" بضم الصاد والدال، وهي قراءة مجاهد والحسن، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بضم الصاد وسكون الدال، وهي قراءة أبي رجاء وأبي عبد الرحمن وقرأ الماجشون: بفتح الصاد وضم الدال، وقراءة قتادة "بين الصَّدْفين"، بفتح الصاد وسكون الدال، وكل ذلك بمعنى واحد: هما الجبلان المتناوحان، وقيل "الصدفان": السطحان الأعليان من الجبلين، وهذا نحو من الأول، وقوله { قال انفخوا } إلى آخر الآية معناه أنه كان يأمر بوضع طاقة من الزبر والحجارة، ثم يوقد عليها، حتى تحمى، ثم يؤتى بالنحاس المذاب أو الرصاص أو بالحديد، بحسب الخلاف في القطر، فيفرغه، على تلك الطاقة المنضدة، فإذا التأم واشتد استأنف وصف طاقة أخرى، إلى أن استوى العمل، وقرأ بعض الصحابة: "بقطر أفرغ عليه"، وقال أكثر المفسرين: "القطر": النحاس المذاب، ويؤيد هذا ما روي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال: يا رسول الله، إني رأيت سد يأجوج ومأجوج، قال كيف رأيته؟ قال رأيته كالبرد المحبر: طريقة صفراء، وطريقة حمراء، وطريقة سوداء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد رأيته" ، وقالت فرقة "القطر": الرصاص المذاب، وقالت فرقة الحديد المذاب، وهو مشتق من قطر يقطر، والضمير في قوله { استطاعوا } لـ { { يأجوج ومأجوج } [الكهف: 94]، وقرأت فرقة "فما اسْطاعوا" بسكون السين وتخفيف الطاء، وقرأت فرقة بشد الطاء، وفيها تكلف الجمع بين ساكنين و { يظهروه } معناه: يعلونه بصعود فيه، ومنه في الموطأ: والشمس في حجرتها قبل أن تظهر، { وما اسطاعوا له نقباً } لبعد عرضه وقوته ولا سبيل سوى هذين إما ارتقاء وإما نقب، وروي أن في طوله ما بين طرفي الجبلين مائة فرسخ، وفي عرضه خمسين فرسخاً، وروي غير هذا مما لا ثبوت له، فاختصرناه، إذ لا غاية للتخرص، وقوله في هذه الآية { انفخوا } يريد بالأكيار، وقوله { اسطاعوا } بتخفيف الطاء، على قراءة الجمهور قيل هي لغة بمعنى استطاعوا وقيل بل استطاعوا بعينه، كثر في كلام العرب حتى حذف بعضهم منه التاء، فقالوا: { اسطاعوا }، وحذف بعضهم منه الطاء فقال: "استاع" يستيع بمعنى استطاع يستطيع، وهي لغة مشهورة وقرأ حمزة وحده "فما اسطّاعوا" بتشديد الطاء وهي قراءة ضعيفة الوجه، قال أبو علي: هي غير جائزة، وقرأ الأعمش: "فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا" بالتاء في الموضعين، وقوله { هذا رحمة } الآية القائل: ذو القرنين، وأشار بهذا إلى الردم والقوة عليه والانتفاع به، وقرأ ابن أبي عبلة "هذه رحمة"، و"الوعد": يحتمل أن يريد به يوم القيامة، ويحتمل أن يريد به وقت خروج يأجوج ومأجوج، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر "دكاً" مصدر دك يدك إذا هدم ورض، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي "دكاء" بالمد، وهذا على التشبيه بالناقة الدكاء وهي التي لا سنام لها، وفي الكلام حذف تقديره جعله مثل دكاء، وأما النصب في { دكاً } فيحتمل أن يكون مفعولاً ثانياً لـ "جعل"، ويحتمل أن يكون "جعل" بمعنى خلق، وينصب { دكاً } على الحال، وكذلك أيضاً النصب في قراءة من مد يحتمل الوجهين، والضمير في { تركنا } لله عز وجل، وقوله { يومئذ } يحتمل أن يريد به يوم القيامة لأنه قد تقدم ذكره، فالضمير في قوله { بعضهم } على ذلك لجميع الناس، ويحتمل أن يريد بقوله { يومئذ } يوم كمال السد، فالضمير في قوله { بعضهم } على ذلك { { يأجوج ومأجوج } [الكهف: 94]، واستعارة "الموج" لهم عبارة عن الحيرة وتردد بعضهم في بعض كالمولهين من هم وخوف ونحوه، فشبههم بموج البحر الذي يضطرب بعضه في بعض، وقوله { ونفخ في الصور } إلى آخر الآية معني به يوم القيامة بلا احتمال لغيره، فمن تأول الآية كلها في يوم القيامة، اتسق تأويله، ومن تأول الآية إلى قوله { يموج في بعض } في أمر يأجوج ومأجوج، تأول القول وتركناهم يموجون دأباً على مر الدهر وتناسل القرون منهم فنائهم، ثم { نفخ في الصور } فيجتمعون، و { الصور }: في قول الجمهور وظاهر الأحاديث الصحاح، هو القرن الذي ينفخ فيه للقيامة، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنا الجبهة وأصغى بالأذن متى يؤمر" ، فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "قولوا حسبنا الله وعلى الله توكلنا، ولو اجتمع أهل منى ما أقلوا ذلك القرن" ، وأما "النفخات"، فأسند الطبري إلى أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الصور قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين" ، وقال بعض الناس "النفخات" اثنتان: نفخة الفزع، وهي نفخة الصعق، ثم الأخرى التي هي للقيام، وملك الصور هو إسرافيل، وقالت فرقة { الصور } جمع صورة، فكأنه أراد صور البشر والحيوان نفخ فيها الروح، والأول أبين وأكثر في الشريعة، وقوله { وعرضنا جهنم } معناه: أبرزناها لهم لتجمعهم وتحطمهم، ثم أكد بالمصدر عبارة عن شدة الحال، وروى الطبري في هذا حديثاً مضمنه أن النار ترفع لليهود والنصارى كأنها السراب، فيقال هل لكم في الماء حاجة؟ فيقولون نعم، وهذا مما لا صحة له.