التفاسير

< >
عرض

وَأَمَّا ٱلْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً
٨٠
فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَـاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً
٨١
وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عَّلَيْهِ صَبْراً
٨٢
-الكهف

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

تقدم القول في { الغلام }، والخلاف في بلوغه أو صغره، وفي الحديث: أن ذلك الغلام طبع يوم طبع كافراً، وهذا يؤيد ظاهره أنه كان غير بالغ، ويحتمل أن يكون خبراً عنه، مع كونه بالغاً. وقيل اسم الغلام جيسور بالراء، وقيل جيسون بالنون، وهذا أمر كله غير ثابت، وقرأ أبي بن كعب: "فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين"، وقرأ أبو سعيد الخدري "فكان أبواه مؤمنان" فجعلها كان التي فيها الأمر والشأن، وقوله { فخشينا } قيل هو في جملة الخضر، فهذا متخلص. والضمير عندي للخضر وأصحابه الصالحين الذين أهمهم الأمر وتكلموا فيه، وقيل هو في جهة الله تعالى، وعنه عبر الخضر قال الطبري معناه فعلمنا وقال غيره معناه فكرهنا والأظهر عندي في توجيه هذا التأويل، وإن كان اللفظ يدافعه، أنها استعارة، أي على ظن المخلوقين والمخاطبين، لو علموا حاله لوقعت منهم خشية الرهق للأبوين، وقرأ ابن مسعود "فخاف ربك" وهذا بين في الاستعارة وهذا نظير ما يقع في القرآن في جهة الله تعالى من لعل وعسى: فإن جميع ما في هذا كله، من ترج وتوقع، وخوف، وخشية، إنما هو بحبكم أيها المخاطبون، و { يرهقهما } معناه يحثهما ويكلفهما بشدة، والمعنى أن يلقيهما حبه في اتباعه، وقرأ الجمهور "أن يبَدّلهما" بفتح الباء وشد الدال، وقرأ ابن محيصن والحسن وعاصم "يبدلهما" بسكون الباء وتخفيف الدال، و"الزكاة": شرف الخلق، والوقار والسكينة المنطوية على خير ونية، و"الرحم" الرحمة، والمراد عند فرقة أي يرحمهما، وقيل أي يرحمانه، ومنه قول رؤبة بن العجاج: [الرجز]

يا منزل الرحم على إدريسا ومنزل اللعن على إبليسا

وقرأ ابن عامر "رحُماً" بضم الحاء، وقرأ الباقون "رحْماً" بسكونها، واختلف عن أبي عمرو، وقرأ ابن عباس "ربهما أزكى منه" و { أقرب رحماً } وروي عن ابن جريج أنهما بدلا غلاماً مسلماً، وروي عن ابن جريج أنهما بدلا جارية، وحكى النقاش أنها ولدت هي وذريتها سبعين نبياً، وذكره المهدوي عن ابن عباس.
قال القاضي أبو محمد: وهذا بعيد، ولا تعرف كثرة الأنبياء إلا في بني إسرائيل، وهذه المرأة لم تكن فيهم، وروي عن ابن جريج أن أم الغلام يوم قتل كانت حاملاً بغلام مسلم، وقوله { وأما الجدار فكان لغلامين } هذان الغلامان صغيران، بقرينة وصفهما باليتم، وقد قال صلى الله عليه وسلم
"لا يتم بعد بلوغ" . هذا الظاهر، وقد يحتمل أن يبقى عليهما اسم اليتم بعد البلوغ أي كانا يتيمين على معنى التشفق عليهما، واختلف الناس في "الكنز": فقال عكرمة وقتادة كان مالاً جسيماً، وقال ابن عباس كان علماً في صحف مدفونة، وقال عمر مولى غفرة كان لوحاً من ذهب قد كتب فيه عجباً للموقن بالرزق كيف يتعب، وعجباً للموقن بالحساب كيف يغفل، وعجباً للموقن بالموت كيف يفرح، وروي نحو هذا مما هو في معناه، قوله { وكان أبوهما صالحاً } ظاهر اللفظ والسابق منه أن والدهما دنيّة، وقيل هو الأب السابع، وقيل العاشر، فحفظا فيه وإن لم يذكرا بصلاح، وفي الحديث "إن الله تعالى يحفظ الرجل الصالح في ذريته" ، وجاء في أنباء الخضر عليه السلام في أول قصة { { فأردت أن أعيبها } [الكهف: 79] وفي الثانية { فأردنا أن يبدلهما } وفي الثالثة { فأراد ربك أن يبلغا } وإنما انفرد أولاً في الإرادة لأنها لفظة عيب، فـتأدب بأن لم يسند الإرادة فيها إلا إلى نفسه، كما تأدب إبراهيم عليه السلام في قوله { { وإذا مرضت فهو يشفيني } } [الشعراء: 80]، فأسند الفعل قبل وبعد إلى الله تعالى، وأسند المرض إلى نفسه، إذ هو معنى نقص ومصيبة، وهذا المنزع يطرد في فصاحة القرآن كثيراً، ألا ترى إلى تقديم فعل البشر في قوله تعالى: { { فلما زاغوا أزاغ الله } [الصف: 5]، وتقديم فعل الله تعالى في قوله { { ثم تاب عليهم ليتوبوا } [التوبة: 118]، وإنما قال الخضر في الثانية { فأردنا } لأنه أمل قد كان رواه هو وأصحابه الصالحون، وتكلم فيه في معنى الخشية على الوالدين، وتمنى البديل لهما، وإنما أسند الإرادة في الثالثة إلى الله تعالى. لأنها في أمر مستأنف في الزمن طويل غيب من الغيوب، فحسن إفادة هذا الموضع بذكر الله تعالى، وإن كان الخضر قد أراد أيضاً ذلك الذي أعلمه الله أنه يريده، فهذا توجيه فصاحة هذه العبارة بحسب فهمنا المقصر، والله أعلم، و"الأشد" كما الخلق والعقل واختلف الناس في قدر ذلك من السن، فقيل خمس وثلاثون، وقيل ست وثلاثون، وقيل أربعون، وقيل غير هذا مما فيه ضعف، وقول الخضر { وما فعلته عن أمري } يقتضي أن الخضر نبي، وقد اختلف الناس فيه: فقيل هو نبي، وقيل هو عبد صالح وليس بنبي، وكذلك جمهور الناس على أن الخضر مات صلى الله عليه وسلم، وتقول فرقة إنه حي، لأنه شرب من عين الحياة، وهو باق في الأرض، وأنه يحج البيت، وغير هذا، وقد أطنب النقاش في هذا المعنى، وذكر في كتابه أشياء كثيرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره، كلها لا يقوم على ساق، ولو كان الخضر عليه السلام حياً يحج لكان له في ملة الإسلام ظهور والله العليم بتفاصيل الأشياء لا رب غيره، ومما يقضي بموت الخضر الآن قول النبي صلى الله عليه وسلم "أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد" ، وقوله ذلك تأويل أي مآل، وقرأت فرقة "تستطع"، وقرأ الجمهور "تسطع" قال أبو حاتم كذا نقرأ "نتبع" المصحف، وانتزع الطبري من اتصال هذه القصة بقوله تعالى: { { وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً } [الكهف: 58] إن هذه القصة إنما جلبت على معنى المثل للنبي صلى الله عليه وسلم في قومه؛ أي لا تهتم بإملاء الله لهم وإجراء النعم لهم على ظاهرها، فإن البواطن سائرة إلى الانتقام منهم، ونحو هذا مما هو محتمل لكن بتعسف ما فتأمله.