التفاسير

< >
عرض

وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً
١٦
فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً
١٧
قَالَتْ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً
١٨
قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً
١٩
قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً
٢٠
-مريم

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

هذه ابتداء قصة ليست من الأولى، والخطاب لمحمد عليه السلام. و { الكتاب } القرآن، و { مريم } هي بنت عمران أم عيسى اخت أم يحيى واختلف الناس لم { انتبذت } والانتباذ التنحي. فقال السدي { انتبذت } لتطهر من حيض، وقال غيره لتعبد الله وهذا أحسن، وذلك أن مريم كانت وقفاً على سدانة المتعبد وخدمته والعبادة فيه فتنحت من الناس لذلك. وقوله { شرقياً } يريد في جهة الشرق من مساكن أهلها، وسبب كونه في الشرق أنهم كانوا يعظمون جهة المشرق ومن حيث تطلق الأنوار، وكانت الجهات الشرقية من كل شيء أفضل من سواها، حكاه الطبري، وحكي عن ابن عباس أنه قال إني لأعلم الناس لم اتخذ النصارى المشرق قبلة؟ لقول الله عز وجل { إذا انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً } فاتخذوا ميلاد عيسى قبله، وقال بعض الناس "الحجاب" هي اتخذته لتستتر به عن الناس لعبادتها. فقال السدي كان من جدرات، وقيل من ثياب، وقال بعض المفسرين اتخذت المكان بشرقي المحراب، و"الروح" جبريل، وقيل عيسى، حكى الزجاج القولين. فمن قال إنه جبريل قدر الكلام فتمثل هو لها. ومن قال إنه عيسى قدر الكلام فتمثل الملك لها، قال النقاش ومن قرأ "روحنّا" مشددة النون جعله اسم ملك من الملائكة ولم أر هذه القراءة لغيره. واختلف الناس في نبوة مريم فقيل كانت نبية بهذا الإرسال والمحاورة للملك، وقيل لم تكن نبية وإنما كلمها مثال بشر ورؤيتها لملك، كما رئي جبريل في صفة دحية وفي سؤاله عن الإسلام والأول أظهر. وقوله تعالى { أعوذ بالرحمن } الآية، المعنى قالت مريم للملك الذي تمثل لها بشراً لما رأته قد خرق الحجاب الذي اتخذته، فأساءت به الظن { أعوذ بالرحمن منك إن كنت } ذا تقى، قال أبو وائل علمت أن "التقي" ذو نهية، وقال وهب بن منبه "تقي" رجل فاجر كان ذلك في الزمن في قومها فلما رأته متسوراً عليها ظنته إياه فاستعاذت بالرحمن منه، حكى هذا مكي وغيره، وهو ضعيف ذاهب مع التخرص، فقال لها جبريل عليه السلام { إنما أنا رسول ربك لأهب لك }، جعل الهبة من قبله لما كان الإعلام بها من قبله. وقرأ الجمهور "لأهب" كما تقدم، وقرأ عمرو ونافع "ليهب" بالياء أي ليهب الله لك، واختلف عن نافع. وفي مصحف ابن مسعود "ليهب الله لك" فلما سمعت مريم ذلك واستشعرت ما طرأ عليها استفهمت عن طريقه وهي لم يمسها بشر بنكاح ولم تكن زانية. و"البغي" المجاهرة المنبهرة في الزنا فهي طالبة له بغوى على وزن فعول كبتول وقتول ولو كانت فعيلاً لقوي أن يلحقها هاء التأنيث فيقال بغية.