التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
١٠٧
أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ
١٠٨
وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٠٩
-البقرة

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

الملك السلطان ونفوذ الأمر والإرادة، وجمع الضمير في { لكم } دال على أن المراد بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم خطاب أمته، و"الولي" فعيل من ولي إذا جاور ولحق، فالناصر والمعين والقائم بالأمر والحافظ كلهم مجاور بوجه ما، و"النصير" فعيل من النصر، وهو أشد مبالغة من ناصر.
وقوله تعالى: { أم تريدون }: قالت فرقة: { أم } رد على الاستفهام الأول، فهي معادلته.
وقالت فرقة { أم } استفهام مقطوع من الأول، كأنه قال: أتريدون، وهذا موجود في كلام العرب.
وقالت فرقة: { أم } هنا بمعنى بل وألف الاستفهام، قال مكي وغيره: وهذا يضعف لأن "أم" لا تقع بمعنى بل إلا اعترض المتكلم شك فيما يورده.
قال القاضي أبو محمد: وليس كما قال مكيرحمه الله ، لأن "بل" قد تكون للإضراب عن اللفظ الأول لا عن معناه، وإنا يلزم ما قال على أحد معنيي "بل" وهو الإضراب عن اللفظ والمعنى، ونعم ما قال سيبويه: بل هي لترك كلام وأخذ في غيره.
وقال أبو العالية: إن هذه الآية نزلت حين قال بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: ليت ذنوبنا جرت مجرى ذنوب بني إسرائيل بتعجيل العقوبة في الدنيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أعطاكم الله خيراً مما أعطى بني إسرائيل. وتلا:
{ { ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً } [النساء:110].
قال القاضي أبو محمد: فتجيء إضافة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأمة على هذا حسب الأمر في نفسه وحسب إقرارهم.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: إن رافع بن حريملة اليهودي سأل النبي صلى الله عليه وسلم تفجير عيون وغير ذلك، وقيل: إن كفار قريش سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله جهرة، وقيل: سألوه أن يأتي بالله والملائكة قبيلاً، وقال مجاهد: سألوه أن يرد الصفا ذهباً، فقال لهم: خذوا ذلك كالمائدة لبني إسرائيل، فأبوا ونكصوا.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فتجيء على هذه الأقوال إضافة الرسول إليهم حسب الأمر في نفسه، لا على إقرارهم، و { كما سئلَ موسى } عليه السلام هو أن يرى الله جهرة. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وغيره "سِيل" بكسر السين وياء وهي لغة، يقال: سلت أسال، ويحتمل أن يكون من همز أبدل الهمزة ياء على غير قياس ثم كسر السين من أجل الياء، وقرأ بعض القراء بتسهيل الهمزة بين الهمزة والياء مع ضم السين، وكني عن الإعراض عن الإيمان والإقبال على الكفر بالتبدل، وقال أبو العالية: "الكفر هنا الشدة، والإيمان الرخاء".
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، إلا أن يريدهما مستعارتين، أي الشدة على نفسه والرخاء لها عبارة عن العذاب والتنعيم، وأما المتعارف من شدة أمور الدنيا ورخائها فلا تفسر الآية به، و { ضل } أخطأ الطريق، و"السواء" من كل شيء الوسط والمعظم، ومنه قوله تعالى
{ { في سواء الجحيم } } [الصافات: 55].
وقال عيسى بن عمر: كتبت حتى انقطع سوائي، وقال حسان بن ثابت في رثاء النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكر ابن إسحاق وغيره [الكامل]:

يا ويح أنصار النبيِّ ورهطِهِ بَعْدَ المغيَّبِ في سواءِ الملحدِ

وقال أبو عبيد: هو في عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو عندي وهم منه، و { السبيل } عبارة عن الشريعة التي أنزلها الله لعباده، لما كانت كالسبب إلى نيل رحمته كانت كالسبيل إليها.
وقوله تعالى: { ود كثير من أهل الكتاب }، { كثير } مرتفع بــ { ود }، وهو نعت لنكرة، وحذف الموصوف النكرة قلق، ولكن جاز هنا لأنها صفة متمكنة ترفع الإشكال بمنزلة فريق، قال الزهري عنى بـ { كثير } واحد، وهو كعب بن الأشرف، وهذا تحامل، وقوله تعالى { يردونكم } يرد عليه، وقال ابن عباس: المراد ابنا أخطب، حيي وأبو ياسر.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وفي الضمن الاتباع، فتجيء العبارة متمكنة، و { الكتاب } هنا التوراة، و { لو } هنا بمنزلة "إن" لا تحتاج إلى جواب، وقيل يتقدر جوابها في { ود }، التقدير لو يردونكم لودوا ذلك.
قال القاضي أبو محمد: فـ"ود" دالة على الجواب، لأن من شرطه أن يكون متأخراً عن { لو }،و { كفاراً } مفعول ثان، ويحتمل أن يكون حالاً، و { حسداً } مفعول له، وقيل: هو مصدر في موضع الحال.
واختلف في تعلق قوله { من عند أنفسهم }: فقيل يتعلق بـ { ود } لأنه بمعنى ودوا، وقيل: يتعلق بقوله { حسداً } فالوقف على قوله { كفاراً }، والمعنى على هذين القولين أنهم لم يجدوا ذلك في كتاب ولا أمروا به فهو من تلقائهم، ولفظة الحسد تعطي هذا، فجاء من عند أنفسهم تأكيداً وإلزاماً، كما قال تعالى:
{ { يقولون بأفواههم } [آل عمران: 167]، و { { يكتبون الكتاب بأيديهم } [البقرة: 79]، { { ولا طائر يطير بجناحيه } [الأنعام: 38]، وقيل يتعلق بقوله { يردونكم }، فالمعنى أنهم ودوا الرد بزيادة أن يكون من تلقائهم أي بإغوائهم وتزيينهم.
واختلف في سبب هذه الآية، فقيل: إن حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر أتيا بيت المدراس، فأراد اليهود صرفهم عن دينهم، فثبتا عليه ونزلت الآية، وقيل: إنما هذه الآية تابعة في المعنى لما تقدم من نهي الله عن متابعة أقوال اليهود في
{ { راعنا } [البقرة: 104] وغيره، وأنهم لا يودون أن ينزل خير، ويودون أن يردوا المؤمنين كفاراً.
و { الحق }: المراد به في هذه الآية نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وصحة ما المسلمون عليه، وهذه الآية من الظواهر في صحة الكفر عناداً، واختلف أهل السنة في جواز ذلك، والصحيح عندي جوازه غفلاً وبعده وقوعاً، ويترتب في كل آية تقتضيه أن المعرفة تسلب في ثاني حال من العناد، والعفو ترك العقوبة وهو من "عفت الآثار" والصفح الإعراض عن المذنب كأنه يولي صفحة العنق.
وقال ابن عباس هذه الآية منسوخة بقوله تعالى:
{ { قاتلوا الذين لا يؤمنون } [التوبة: 29] إلى قوله { { صاغرون } [التوبة: 29]، وقيل: بقوله { اقتلوا المشركين }، وقال قوم: ليس هذا حد المنسوخ، لأن هذا في نفس الأمر كان التوقيف على مدته.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا على من يجعل الأمر المنتظر أوامر الشرع أو قتل قريظة وإجلاء النضير، وأما من يجعله آجال بني آدم فيترتب النسخ في هذه بعينها، لأنه لا يختلف أن آيات الموادعة المطلقة قد نسخت كلها، والنسخ هو مجيء الأمر في هذه المقيدة، وقيل: مجيء الأمر هو فرض القتال، وقيل: قتل قريظة وإجلاء النضير، وقال أبو عبيدة في هذه الآية: إنها منسوخة بالقتال، لأن كل آية فيها ترك القتال فهي مكية منسوخة.
قال القاضي أبو محمد: وحكمه بأن هذه الآية مكية ضعيف، لأن معاندات اليهود إنما كانت بالمدينة، وقوله تعالى: { إن الله على كل شيء قدير } مقتضاه في هذا الموضوع وعد للمؤمنين.