التفاسير

< >
عرض

فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١٨١
فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٨٢
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
١٨٣
أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
١٨٤
-البقرة

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

الضمير في { بدله } عائد على الإيصاء وأمر الميت وكذلك في { سمعه }، ويحتمل أن يعود الذي في { سمعه } على أمر الله تعالى في هذه الآية، والقول الأول أسبق للناظر، لكن في ضمنه أن يكون المبدل عالماً بالنهي عامداً لخلافه، والضمير في { إثمه } عائد على التبديل، و { سميع عليم } صفتان لا يخفى معهما شيء من جنف الموصين وتبديل المتعدين، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم "من موَصّ" بفتح الواو وتشديد الصاد، وقرأ الباقون بسكون الواو، والجنف الميل، وقال الأعشى: [الطويل]

تجانِفُ عَنْ حِجْرِ الْيَمَامَةِ نَاقَتي وَمَا قَصَدَتْ مِنْ أَهْلِهَا لِسِوَائِكَا

وقال عامر الرامي الحضرمي المحاربي: [الوافر]

هُمُ الْمَوْلَى وَقَدْ جَنَفُوا عَلَيْنَا وإِنَّا مِنْ عَدَواتِهِمْ لَزُورُ

ومعنى الآية على ما قال مجاهد: من خشي أن يحيف الموصي ويقطع ميراث طائفة ويتعمد الإذاية أو يأتيها دون تعمد وذلك هو الجنف دون إثم وإذا تعمد فهو الجنف في إثم، فالمعنى: من وعظه في ذلك ورده عنه فصلح بذلك ما بينه وبين ورثته وما بين الورثة في ذاتهم { فلا إثم،عليه، إن الله غفور } عن الموصي إذا عملت فيه الموعظة ورجع عما أراد من الإذاية { رحيم } به.
وقال ابن عباس رضي الله عنه وقتادة والربيع: معنى الآية، من خاف أي علم ورأى وأتى علمه عليه بعد موت الموصي أن الموصي خلف وجنف وتعمد إذاية بعض ورثته فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق فلا إثم عليه، أي لا يلحقه إثم المبدل المذكور قبل وإن كان في فعله تبديل ما ولا بد، لكنه تبديل لمصلحة، والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى. وقرأ عبد الله بن عمر رضي الله عنه: "فلإثم عليه" بحذف الألف، و { كتب }: معناه فرض.
والصيام في اللغة الإمساك وترك التنقل من حالٍ إلى حال، ومنه قول النابغة: [البسيط]

خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ تَحْتَ العَجَاجِ وَخَيْلٌ تَعْلِكُ اللُّجُمَا

أي خيل ثابتة ممسكة، ومنه قول الله تعالى: { { إني نذرت للرحمن صوماً } [مريم: 26] أي إمساكاً عن الكلام، ومنه قول امرىء القيس: [الطويل]

كأَنَّ الثُّريَّا عُلِّقَتْ في مَصَامها

أي في موضع ثبوتها وامتساكها، ومنه قوله: [الطويل]

فَدَعْ ذَا وَسَلِّ الْهَمِّ عَنْكَ بِجَسْرَةٍ ذَمُولٍ إِذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرَا

أي وقفت الشمس عن الانتقال وثبتت، والصيام في الشرع إمساك عن الطعام والشراب مقترنة به قرائن من مراعاة أوقات وغير ذلك، فهو من مجمل القرآن في قول الحذاق، والكاف من قوله { كما } في موضع نصب على النعت، تقديره كتباً كما، أو صوماً كما، أو على الحال كأن الكلام: كتب عليكم الصيام مشبهاً ما كتب على الذين من قبلكم.
وقال بعض النحاة: الكاف في موضع رفع على النعت للصيام إذ ليس تعريفه بمحض لمكان الإجمال الذي فيه مما فسرته الشريعة فلذلك جاز نعته بــ { كما } إذ لا تنعت بها إلا النكرات فهو بمنزلة كتب عليكم صيام، وقد ضعف هذا القول.
واختلف المتأولون في موضع التشبيه، فقال الشعبي وغيره: المعنى كتب عليكم رمضان كما كتب على النصارى، قال: "فإنه كتب عليهم رمضان فبدلوه لأنهم احتاطوا له بزيادة يوم في أوله ويوم في آخره، قرناً بعد قرن حتى بلغوه خمسين يوماً، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الفصل الشمسي".
قال النقاش: "وفي ذلك حديث عن دغفل بن حنظلة والحسن البصري والسدي"، وقيل: بل مرض ملك من ملوكهم فنذر إن برىء أن يزيد فيه عشرة أيام، ثم آخر سبعة، ثم آخر ثلاثة، ورأوا أن الزيادة فيه حسنة بإزاء الخطأ في نقله.
وقال السدي والربيع: التشبيه هو أن من الإفطار إلى مثله لا يأكل ولا يشرب ولا يطأ، فإذا حان الإفطار فلا يفعل هذه الأشياء من نام، وكذلك كان في النصارى أولاً،وكان في أول الإسلام، ثم نسخه الله بسبب عمر وقيس بن صرمة بما يأتي من الآيات في ذلك.
وقال عطاء: "التشبيه كتب عليكم الصيام ثلاثة أيام من كل شهر - قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وفي بعض الطرق: ويوم عاشوراء - كما كتب على الذين من قبلكم ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء، ثم نسخ هذا في هذه الأمة بشهر رمضان".
وقالت فرقة: التشبيه كتب عليكم كصيام بالإطلاق، أي قد تقدم في شرع غيركم، فـ { الذين } عام في النصارى وغيرهم، و { لعلكم } ترجّ في حقهم، و { تتقون } قال السدي: معناه تتقون الأكل والشرب والوطء بعد النوم على قول من تأول ذلك، وقيل: تتقون على العموم، لأن الصيام كما قال عليه السلام: "جنة" ووجاء وسبب تقوى، لأنه يميت الشهوات.
و { أياماً } مفعول ثان بــ { كتبَ }، قاله الفراء، وقيل: هي نصب على الظرف، وقيل: نصبها بـ { الصيام }، وهذا لا يحسن إلا على أن يعمل الصيام في الكاف من { كما } على قول من قدر: صوما كما، وإذا لم يعمل في الكاف قبح الفصل بين المصدر وبين ما عمل فيه بما عمل فيه غيره، وذلك إذا كان العامل في الكاف { كتب }، وجوز بعضهم أن يكون { أياماً } ظرفاً يعمل فيه { الصيام }، و { معدودات }، قيل: رمضان: وقيل: الثلاثة الأيام.
وقوله تعالى { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر }، التقدير: فأفطر { فعدة من أيام أخر }، وهذا يسمونه فحوى الخطاب.
واختلف العلماء في حد المرض الذي يقع به الفطر: فقال قوم: متى حصل الإنسان في حال يستحق بها اسم المريض صح الفطر قياساً على المسافر أنه يفطر لعلة السفر وإن لم تدعه إلى الفطر ضرورة، وقاله ابن سيرين.
وقال جمهور من العلماء: إذا كان به مرض يؤذيه ويؤلمه أو يخاف تماديه أو يخاف من الصوم تزيده صح له الفطر، وهذا مذهب حذاق أصحاب مالكرحمه الله ، وبه يناظرون، وأما لفظ مالك فهو: المرض الذي يشق على المرء ويبلغ به.
وقال الحسن: "إذا لم يقدر من المرض على الصلاة قائماً أفطر".
وقالت فرقة: لا يفطر بالمرض إلا من دعته ضرورة المرض نفسه الفطر، ومتى احتمل الضرورة معه لم يفطر، وهذا قول الشافعيرحمه الله .
واختلف العلماء في الأفضل من الفطر أو الصوم في السفر، فقال قوم والشافعي ومالك في بعض ما روي عنه: الصوم أفضل لمن قوي، وجل مذهب مالك التخيير.
وقال ابن عباس وابن عمر وغيرهما: الفطر أفضل.
وقال مجاهد وعمر بن عبد العزيز وغيرهما: أيسرهما أفضلهما، وكره ابن حنبل وغيره الصوم في السفر.
وقال ابن عمر: من صام في السفر قضى في الحضر، وهو مذهب عمر رضي الله عنه، ومذهب مالك في استحبابه الصوم لمن قدر عليه. وتقصير الصلاة حسن، لأن الذمة تبرأ في رخصة الصلاة وهي مشغولة في أمر الصيام، والصواب المبادرة بالأعمال. وقال ابن عباس رضي الله عنه: "الفطر في السفر عزمة"، وذهب أنس بن مالك إلى الصوم، وقال: إنما نزلت الرخصة ونحن جياع نروح إلى جوع، ونغدو إلى جوع، والسفر سفر الطاعة كالحج والجهاد بإجماع، ويتصل بهذين سفر صلة الرحم وطلب المعاش الضروري. وأما سفر التجارة والمباحات فمختلف فيه بالمنع والجواز والقول بالجواز أرجح وأما سفر المعاصي فمختلف فيه بالجواز والمنع والقول بالمنع أرجح، ومسافة سفر الفطر عند مالك حيث تقصر الصلاة، واختلف في قدر ذلك، فقال مالك: يوم وليلة ثم رجع فقال: ثمانية وأربعون ميلاً، وروي عنه: يومان، وروي عنه في العتبية: خمسة وأربعون ميلاً، وفي المبسوط: أربعون ميلاً، وفي المذهب: ستة وثلاثون ميلاً، وفيه: ثلاثون.
وقال ابن عمر وابن عباس والثوري: الفطر في سفر ثلاثة أيام، وفي غير المذهب: يقصر في ثلاثة أميال فصاعداً.
وقوله تعالى: { فعدة } مرفوع على خبر الابتداء تقديره فالحكم أو فالواجب عدة، ويصح أن يرتفع على ابتداء والخبر بعده والتقدير فعدة أمثل له، ويصح فعليه عدة، واختلف في وجوب تتابعها على قولين، و { أخر } لا ينصرف عند سيبويه لأنه معدول عن الألف واللام لأن هذا البناء إنما يأتي بالألف واللام كما تقول الفضل والكبر فاجتمع فيه العدل والصفة، وجاء في الآية { أخر } ولم يجىء أخرى لئلا تشكل بأنها صفة للعدة، والباب أن جمع ما لا يعقل يجري في مثل هذا مجرى الواحدة المؤنثة ومنه قوله تعالى
{ يا جبال أوبي معه } [سبأ: 10]، إلى غير ذلك.
وقرأ جمهور الناس "يطيقونه" بكسر الطاء وسكون الياء والأصل "يطوقونه" نقلت حركة الواو إلى الطاء وقلبت ياء لانكسار ما قبلها، وقرأ حميد "يطوقونه" وذلك على الأصل، والقياس الإعلال.
وقرأ ابن عباس "يطوقونه" بمعنى يكلفونه.
وقرأت عائشة وطاوس وعمرو ابن دينار "يَطَّوقونه" بفتح الياء وشد الطاء مفتوحة.
وقرأت فرقة "يُطَيَّقونه" بضم الياء وشد الطاء المفتوحة.
وقرأ ابن عباس "يَطيَّقونه" بفتح الياء وشد الطاء وشد الياء المفتوحة بمعنى يتكلفونه، وحكاها النقاش عن عكرمة، وتشديد الياء في هذه اللفظة ضعيف.
وقرأ نافع وابن عامر من طريق ابن ذكوان "فديةُ طعام مساكين" بإضافة الفدية.
وقرأ هاشم عن ابن عامر "فديةٌ طعام مساكين" بتنوين الفدية.
وقرأ الباقون "فديةٌ" بالتنوين "طعام مسكين" بالإفراد، وهي قراءة حسنة لأنها بينت الحكم في اليوم، وجمع المساكين لا يدرى كم منهم في اليوم إلا من غير الآية.
قال أبو علي: "فإن قلت كيف أفردوا المساكين والمعنى على الكثرة لأن الذين يطيقونه جمع وكل واحد منهم يلزمه مسكين فكان الوجه أن يجمعوا كما جمع المطيقون؟، فالجواب أن الإفراد حسن لأنه يفهم بالمعنى أن لكل واحد مسكيناً، ونظير هذا قوله تعالى:
{ { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } [النور: 4] فليست الثمانون متفرقة في جميعهم بل لكل واحد ثمانون.
واختلف المتأولون في المراد بالآية فقال معاذ بن جبل وعلقمة والنخعي والحسن البصري وابن عمر والشعبي وسلمة بن الأكوع وابن شهاب: كان فرض الصيام هكذا على الناس من أراد صام ومن أراد أطعم مسكيناً وأفطر، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى:
{ { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } [البقرة: 185].
وقالت فرقة: و { على الذين يطيقونه } أي على الشيوخ والعجّز، الذين يطيقون، لكن بتكلف شديد فأباح الله لهم الفدية والفطر، وهي محكمة عند قائلي هذا القول. وعلى هذا التأويل تجيء قراءة { يطوقونه } و"يطوقونه".
وقال ابن عباس: "نزلت هذه الرخصة للشيوخ والعجّز خاصة إذا أفطروا وهم يطيقون الصوم ثم نسخت بقوله تعالى:
{ { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } [البقرة: 185]، فزالت الرخصة إلا لمن عجز منهم".
وقال السدي: { وعلى الذين يطيقونه } أي على الذين كانوا يطيقونه وهم بحالة الشباب ثم استحالوا بالشَّيَخ فلا يستطيعون الصوم"، وهي عنده محكمة، ويلزم الشيوخ عنده الفدية إذا أفطروا، ونحوه عن ابن عباس.
وقال مالك: "لا أرى الفدية على الشيخ الضعيف واجبة، وتستحب لمن قدر عليها"، والآية عنده إنما هي فيمن يدركه رمضان وعليه صوم من المتقدم فقد كان يطيق في تلك المدة الصوم فتركه فعليه الفدية.
وقال الشافعي وأبو حنيفة: على الشيخ العاجز الإطعام.
وحكى الطبري عن عكرمة أنه كان يقرؤها "وعلى الذين يَطَّيَّقونه" فأفطر، ومذهب مالكرحمه الله وجماعة من العلماء أن قدر الدية مد لكل مسكين.
وقال قوم: قوت يوم: وقال قوم: عشاء وسحور.
وقال سفيان الثوري: نصف صاع من قمح أو صاع من تمر أو زبيب، والضمير في { يطيقونه } عائد على { الصيام }، وقيل على الطعام وهو قول ضعيف.
واختلف في الحامل فقال ابن عمر وابن عباس: تفدي وتفطر ولا قضاء عليها.
وقال الحسن وعطاء والضحاك والزهري وربيعة ومالك: تقضي الحامل إذا أفطرت ولا فدية عليها.
وقال الشافعي وأحمد بن حنبل ومجاهد: تقضي وتفدي إذا أفطرت، وكذلك قال مالك في المرضع إنها إذا أفطرت تقضي وتفدي، هذا هو المشهور عنه، وقال في مختصر ابن عبد الحكم: لا إطعام على المرضع.
وقوله تعالى: { فمن تطوع خيراً فهو خير له } الآية، قال ابن عباس وطاوس عطاء والسدي: المراد من أطعم مسكينين فصاعداً.
وقال ابن شهاب: "من زاد الإطعام على الصوم" وقال مجاهد: "من زاد في الإطعام على المد"، و { خير } الثاني صفة تفضيل، وكذلك الثالث، و { خير } الأول قد نزل منزلة مالاً أو نفعاً، وقرأ أبيّ بن كعب "والصوم خير لكم" بدل { وأن تصوموا }.
وقوله تعالى: { إن كنتم تعلمون } يقتضي الحض على الصوم أي فاعلموا ذلك وصوموا.